القدس مدينةٌ فلسطينيةٌ عربيةُ الوجه إسلاميةُ الحضارة
القدس إسلامية الهوية عاصمة فلسطين الأبدية
لا نصاب باليأسِ والإحباطِ وبالقنوط والعدمِ، ولا نُسلمُ ونستسلمُ ونخضعُ ونخنعُ، ولا نقبل ونعترف ونقر ونوافق، فما حدث ليس قدراً محتوماً ولا كتاباً مسطوراً، ولا قلماً يكتب التاريخ ويرسم المستقبل، إنما هي إعلانات مأفونٍ وتصريحاتُ مجنون، وأحلام سفيهٍ وتصرفات أهوجٍ، وأقوالُ رجلٍ يظن أنه ملك الدنيا وحكم العالم، وامتلك الكون وسيطر على الأرض، وأنه بجرة قلم أو بتغريدةٍ على التويتر، أو بصفقةٍ في السوق أو بمغامرةٍ في البورصة، يستطيع أن يبدل صفحات التاريخ وأن يغير معالم الجغرافيا، وأن يستبدل واقعاً ويثبت آخر، وأنه بهوسه الغريب يستطيع أن ينسي الفلسطينيين حقهم، وأن يجرد المسلمين من قدسهم، وأن يشطبها من قاموسهم ويلغيها من كتابهم.
نسي هذا الأحمق الأهوج أن القدس آيةٌ في كتاب الله، وأنها بعضٌ من القرآن الكريم، يتلوها المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، يقرأونها في صلاتهم ويتهجدون بها في قيامهم، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بذكرها، ويحفظونها صغاراً ولا ينسونها كباراً، ويورثونها لأنفسهم أجداداً لأحفادِ، وأنها مسرى رسولهم من البيت الحرام، ومعراج نبيهم إلى السموات العلى، وقد باركها الله عز وجل لهم وفيما حولها من أجلهم، وجعل فيها طائفةً من أمته على الحق ظاهرين ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء في سبيله، وهم على العهد ماضون، يحافظون على قدسهم، ويرابطون في أقصاهم، ويدافعون عن مسجدهم، الذي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأحد ثلاثة مساجدٍ يشد إليها الرحال، ولهذا فإنهم عنه وعن القدس يدافعون، وفي سبيلهما يضحون بالأرواح والمهج وبالأموال والولد، وبهما لا يفرطون، ولهما مهما طال الزمان لا ينسون ولا يهملون.
نسي هذا الهائج كثورٍ الذي أطلق إلى ساحة مصارعةٍ يجهلها، فبات يتخبط في نفسه، ويضرب ضرب هوجاء في الفضاء عله يصيب خصمه وينال من مصارعه، أن القدس عربية الأثواب والأسمال والمعالم والأسماء، وأنها عربية الحرف واللسان، وعربية البنيان والعمران، فتحها عمرٌ وحررها صلاح، وسكن فيها عليٌ وعمرَّها عثمان، ومشى فوق ترابها شدادٌ وأبو عبيدة، وصال فيها عبادة وسلامة وأبو طلاسة، وبقي فيها المسلمون عهوداً، وشد إليها العربُ الرحالَ عمراً، فكانت لهم فيها حاميةً وأبواباً، وأقواتاً وأحباساً، ما زالت إلى اليوم تحمل اسمهم وتخلد ذكرهم، وتبقي رغماً عن الاحتلال آثارهم.
لو قدر لهذا المفتون بنفسه المغرور بقوته أن ينبش تراب الأرض، وأن يستخرج أجداث الأموات من الآباء والأجداد الذين سبقونا، وأن يحلل بقايا الرفات والعظام، فإنه سيجد أن أديم هذه الأرض هو من تلكم الأجساد الطاهرة المؤمنة، المسلمة الموحدة، وأن تربتها تحتضن رفاتهم، ويسكنها أبطالهم، ويصبغها بالعروبة والإسلام رجالهم، وأن ترابها رطبٌ بدمائهم، ومعبقٍ بطهرهم، وفيه بقايا من آثارهم، والكثير من علاماتهم، فهي الأرض المقدسة التي فتحوها بعهدتهم العمرية، وهي تلك التي حرروها من الاحتلال الصليبي بالدماء الزكية، وهي نفسها التي طهروها من الغزو المغولي، فبقيت عربية الوجه إسلامية الهوية والحضارة.
ليس أدل تشبيهاً لهذا الأرعن الأمريكي، المأفون في عقله والفاسد في فكره، ولا أدق وصفاً له من قول الله عز وجل " إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا ...." وبذات حمق الكفار وعنادهم القديم، وجهلهم وسفههم المعروف، قال: إنها أورشاليم عاصمة إسرائيل الأبدية الموحدة، وبها اعترف عاصمةً، وفيها أعلن أنه سيبني سفارة بلاده، ومنها ستزاول عملها ونشاطها، وقد ظن في نفسه جهلاً أنه البطل دون رؤساء أمريكا السابقين، وأنه الأكثر شجاعة والأصدق وعداً، وما علم أنه سيبوء بالخسران، وسيجد نفسه مضطراً للاذعان إلى الحق، والقبول بالعدل، والنكول عن الوعد والنكوص على العقب، وسحب الاعتراف وإبداء الندم، وسيشهد التاريخ على جهله، وستذكر الأيام مدى سخفه وقلةِ عقله، ونقص خبرته وضحالة تجربته.
لا تنسوا أيها العرب والمسلمون، وأيها الفلسطينيون في الوطن والشتات، أن فلسطين كلها محتلةٌ أرضها، ومغتصبةٌ حقوقها، ومنتهكةٌ مقدساتها، ومنهوبةٌ أملاكها، وأهلها منها مطرودون وفيها لاجئون وعنها مبعدون، وقد اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني عند تأسيسه في العام 1948، بل كانت أول دولةٍ تعترف به، ولم تكتفِ بالاعتراف به وتشريع وجوده، بل زودته بالمال والسلاح، وبالخبرة والرجال، والعلوم والتقنية الحديثة، ليبقى متفوقاً، ويستمر قوياً، ولكن اعترافها الأول به لم يلغِ عروبة القدس، ولم يشطب هويتها الإسلامية ولم يغير معالمها الأصيلة، رغم مساعيه المحمومة ومحاولاته المجنونة، وإجراءاته التهويدية التي لا تتوقف، إلا أن القدس تبقى عصيةً على تهويدهم، وترفض أبداً تغريبهم، وتصر على أن يبقى الضاد لسانها، وأن تصدح بنداءات الله أكبر مساجدها، وتتردد فوق قبابه وفي جنباته تلاوةً وتجويداً كلماتُ ربها وآياتُ قرآنها، ذكراً حسناً خالداً أبداً وعد الصدق إلى يوم القيامة.
ترامب يدعو العرب المسلمين إلى الهدوء والتعقل
بكل وقاحةٍ وبجاحةٍ وصفاقةٍ وقلة أدبٍ، وانعدام ذوقٍ وبلادة فكرٍ وسوء خلقٍ، وباستخفافٍ بادي واستهبالٍ ظاهرٍ، أو باستعباطٍ مقصودٍ وغباءٍ متعمد، يطالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشعوب العربية والإسلامية بالتعقل والهدوء، والكف عن التظاهرات والمسيرات، والامتناع عن الشجب والرفض والاستنكار، والتراجع عن الثورة والغضب، ووقف الحملات التحريضية وتعبئة الجماهير الشعبية، والعودة بالمواطنين إلى الحياة العادية، بعد هالته مشاهد التظاهرات والمسيرات، وصور الرفض والاستنكار، التي عمت جميع العواصم العربية والغربية، ولم تستثن منها العاصمة الأمريكية واشنطن، التي شهدت بدورها مظاهراتٍ واعتصاماتٍ منددة بالقرار، ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني، ومؤيدةً حقه في القدس مدينةً وعاصمةً لهم.
دعا ترامب الشعوب العربية والإسلامية إلى تفهم مبرراته والاطمئنان إلى دوافعه، وعدم الشك في نواياه أو الطعن في مقاصده، فهو يتطلع إلى السلام الشامل بين العرب والإسرائيليين، ويريد حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية، وأكد أن مساعده كوشنير وآخرون سيقومون في الأيام القليلة القادمة بالكشف عن مشروعه للسلام وتصوره للتسوية في المنطقة، وعندها سيدرك الفلسطينيون أنه لم يخدعهم ولم ينقلب عليهم، ولم يصطف إلى جانب الكيان الصهيوني، ولم يعطهم حقاً ليس لهم، القدس التي هي حقٌ لغيرهم وعاصمةٌ لسواهم، بل إن ما قام به يخدم السلام ويفيد المنطقة ويحقق الأمن والاستقرار لسكانها.
ترامب الذي يعيب على الإدارات الأمريكية السابقة، ويتهمها بالتقصير وسوء الإدارة، والإهمال وعدم المبادرة، لأنها لم تقم بهذه الخطوة السيادية المشروعة منذ سنواتٍ، يريد بكل بساطةٍ ويسرٍ من العرب والمسلمين أن يصدقوه، وأن يسلموا بحسن نيته وصفاء سريرته، وشرعية مقصده وقانونية خطوته، ويتمنى عليهم ألا يتهمونه بسوء القصد وعدوانية القرار، ولا بالانحياز الأعمى إلى الكيان الصهيوني، ولا بالجهل التام بقضايا الشرق الأوسط، ويدعي أنه بخطوته هذه إنما يريد الخير للفلسطينيين والسلام للعرب والاستقرار للمنطقة، وعلى العرب والمسلمين أن يفكروا جلياً في قراره، وأن يدركوا أبعاده، فهو قرارٌ صائبٌ يصب في صلب العملية السلمية ويتناغم معها، ولا يتعارض مع مبادئ السلام، ولا يسبق العملية السلمية، ولا يفرض حلولاً مسبقةً، ولا يستبق بوقائع جديدةٍ يصعب تجاوزها خاصةً إذا تم البناء عليها.
لست أدري هل يكذب علينا هذا الرجل أم يكذب على نفسه، وهو يحاول أن يوهم الآخرين بما يرى ويعتقد، أتراه يصدق نفسه عندما يبرر فعلته النكراء بهذه الأكاذيب الشنيعة، أم أنه يستهزئ بالعرب والمسلمين ويستخف بهم وبعقولهم، ولا يعنيه أمرهم ولا يهتم لشأنهم، ولا يتوقف عند احتجاجهم، ولا يحسب حساباً لمعارضتهم، ولا يأبه بمظاهراتهم واعتصاماتهم، ويريد أن يقنعنا أنه يقف إلى جانبنا، ويساندنا في حقنا، ويحرص على مستقبلنا، ويتطلع إلى السلام من أجلنا، ويفترض فينا البراءة والبساطة بما يكفي لنصدقه، ويريدنا وقد صدقناه أن ندافع عنه ونرد الاتهامات التي تشاع حوله، وأن نبشر بخطته ونبارك قراره.
ألا يدري ترامب أنه بقراره الطائش هذا قد أصاب الأمة العربية والإسلامية في صميم قلبها، واستهدف روحها، وطعنها في أعز مقدساتها، واعتدى على درة مساجدها وعروس مدائنها، وألحق نسبها الشريف بأخس أمةٍ وأحط شعبٍ، ولوث باعترافه المشؤوم شرفها الرفيع، وأهان كرامتها المصونة، وهي العزيزة الكريمة، الأبية الرفيعة النسب العالية المقام، التي تمتد جذورها في عمق التاريخ، وترسم صفحاتها الناصعة على هام الزمان آياتٍ من العز والفخار، يتشرف بها المسلمون، ويفخر بانتسابهم إليها العربُ، إذ كانت لهم في زمانهم عاصمةً ومنارةً، بها يُعرفون وإليها ينتسبون، وبمنارة مساجدها يهتدون.
كيف يمكن لهذا الدعيِّ الغبي أن يطلب من العرب والمسلمين أن يتقبلوا هذه الجريمة، وأن يغضوا الطرف عنها، وألا يتهموا مرتكبها بالجنون والسفه، اللهم إلا إذا كان قد اتفق مع البعض، وتآمر مع آخرين، وعقد النية بالتعاون مع بعض الخائنين للأمانة، المفرطين في الوعد، والزاهدين في القدس، فاطمئن إلى أن قراره سيمضي، وأن مفاعليه ستتحقق، وأن غضب الشارع العربي والإسلامي بفضل المتعاونين معه سيهدأ، وستخبو ثورته وستتراجع انتفاضته، وسيسلم بعجزه عن مواجهته، وعدم القدرة على منعه، وسيقبل في نهاية المطاف بالأمر الواقع، خاصةً إذا قبلت بالأمر الحكوماتُ، ووافق عليه الملوكُ والرؤساءُ والقادةُ والأمراءُ.
أخطأ الرئيس الأمريكي بالتأكيد قراءة الشراع العربي والإسلامي، وخانه معاونوه ومستشاروه عندما لم يخبروه أن شعوب هذه الأمة حية، وأنها حرة أبية عزيزة، لا تنام على الضيم، ولا تسكت على الذل، ولا يطول مقامها على الخسف، ولا تقبل المساس بدينها، ولا الاعتداء على مقدساتها، أو الإساءة إلى رموزها وتدنيس مساجدها، فكيف إذا جردها عدوها من مسجدها الأقصى، وحرمها من مدينتها المقدسة، حينها لن تستكين الشعوب ولن تهدأ، ولن تصغي السمع لأحد ولن تخضع، ولن تترك العدو ينعم بالمنحة، ولا أمريكا بنشوة القرار، لكن أعداء الأمة أغبياء لا يتعلمون، وسفهاء لا يعقلون، وقد أصابهم مسٌ من الجنون فخرفوا، والكثير من الغرور فأخطأوا، وبعض الغطرسة فظلموا، فهل توقظهم الأحداث، وتنبههم من غفلتهم ردةُ فعل الشعوب الغاضبة وثورتها النابضة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي