ديموقراطيتنا هل هي [ديموكراسي أم دهماء كراسي]؟
دعْنا أولا نحاول تحديد مفهوم السياسة في عصر غموض اللغة، واختلاط المفاهيم، ومع ذلك نستعملها، ونعتقد أنها واضحة، وهي ليست كذلك.. فما أكثر الألفاظ التي نلوكها وهي فارغة من أي معنًى، وبها يتمّ خداعُنا والضحك على أذقاننا؛ فكم هي العبارات التي لا معنى لها، وإنما هي ألفاظ فارغة، رتِّبت على هيئة جملة، توحي للقارئ بأنها تقول شيئا، فيما هي لو حلّلناها لوجدناها لا تدخل ضمن الكلام المفهوم أصلا، ولا يمكن اعتبارها لغة مفهومة، وإنما هي أصوات تخدع السامع، وليس لها مضمون، أو مفهوم، وليس لها تجسيد في الواقع، ولا تؤدي إلى عمل؛ فلو دقّقتَ النظر مثلا في لغة الوزراء، والأحزاب، والتلفزة كل ليلة، لألفيتَ أن هذه اللغةَ المعتمدة هي التي تحجب حقائقَ الواقع، فما بالك بتحليله وتغييره؛ فهذه اللغة تمثل حاجزا بين الواقع والمواطن، وهذه اللغة هي أساس التضليل، والخداع، والتغليط، والمصيبة أن اللغة هي وسيلة العلم، ولغتنا ليست علمية إطلاقا للأسف الشديد..
خذْ مثلا لفظة [ديموقراطية]، وهي الأكثر شيوعا واستعمالا في خطابنا اليومي؛ فهل ترى لها تجسيدا في واقعنا السياسي؟ الجواب: كلاّ! لماذا؟ لأن كل الألفاظ المرتبطة بهذه الديموقراطية غير حقيقية، وحتى الوسائل التي كان من المفروض أن تدلّل عليها في واقعنا، تجدها وهميةً، وخادعة، وصوريةً ليس إلا؛ فلا البرلمان برلمان حقيقي؛ ولا النائب نائب حقيقي، ولا المؤسسات المعبِّرة عن هذه الديموقراطية، هي مؤسسات فعلية، بل هي وهمية، ووظيفتها منتفية، والكائنات الموجودة بها غير حقيقية، ومع ذلك دُرِج الناس بسبب اللغة التي توجّه الأفكار، وتتحكّم في العقول، وتوجّه السلوك، تراهم يدْعون هذه المؤسسات بما ليس لها وبما لا تقوم به أصلا، وتلكم مأساة هذا البلد.. وهكذا فلا الأحزاب أحزاب، ولا المؤسسات مؤسسات، ولا الحكومة حكومة، فنعيش أوهاما ونعتبرها حقائق، ونستعمل ألفاظا للتعبير عنها، وهي مجرد أشباه ألفاظ، فيستمر الوهم، ويغتني من ذلك مكرِّسوه، وتصير حياتنا مجرد دوائر فارغة، كل دائرة تُفضي إلى أخرى أكثر منها فراغا؛ وهكذا دواليك؛ ولكن إلى متى؟
[الديموكراسي] كما تسمّى بالفرنسية؛ لو وضعتَها تحت مجهر تحديد الألفاظ، ثم قارنتَها بما هو موجود تحت الأنوف، بما يسمى [ديموكراسي]، لألفيْتها بأنها تعني [دهماء الكراسي]، وهم الذين يروّجون لها، وينتفعون منها، ويستغلّونها في الانتخابات، وفي البرلمان، وفي مجلس المستشارين، وفي تشكيل الحكومات، وفي الظفر بالتعيينات في المناصب العليا، وفي الدعم المالي الضخم لأحزاب مفلسة، على حساب شعب مخدوع، أي والله! والواقع الفاقع الذي كرّس هذا الوضع الذي يشل البلاد، هو أن الأحزاب الوهمية هي التي تنتج النخب الفاشلة، التي تتحكّم في مصير البلاد، وتستفرد بخيرات الوطن، وتمثل حاجزا أمام إبداعات، وخبرات أبناء الشعب؛ وهذه الأحزاب التي هي في الواقع شركات استثمارية في ميدان السياسة، لا يهمها تقدمُ البلد، وتنميتُها بشريا، وفكريا، ومادّيا، لأنها في الأصل لم تُخْلَقْ لذلك، وإن كانت تتحدث كذبا ونفاقا عن التقدم لتضليل المواطن بخطاب خادع..
وفي هذه المقالة، سوف نتحدث عن السياسة: ماهيتها، وغائيتها.. فما هي السياسة؟ هي مصدر ساسَ؛ وهي تنظيم أمور الدولة، وتدبير شؤونها، وقد تكون شرعية، أو تكون مدنية.. فإذا كانت شرعية، كانت أحكامها مستمدة من الدين؛ وإذا كانت مدنية، كانت قسما من الحكمة العملية، وهي الحكمة السياسية، أو علم السياسة.. وموضوع علم السياسة عند بعض الفلاسفة، هو البحث في أنواع الدول، والحكومات، وعلاقتها بعضها ببعض؛ والكلام على المراتب المدنية، وأحكامها، والاجتماعات الإنسانية الفاضلة والرديئة، ووجوه استبقاء كل منها، وعلّة زواله، وكيفية رعاية مصالح الخلق، وعمارة البلد وغيرها؛ وكتاب [السياسة لأرسطو]؛ وكتاب [ليفياتان لهوبز]؛ وكتاب [روح القوانين لمونتيسكيو]؛ وكتاب [العقد الاجتماعي لروسو] وغيرها، تعد مشتملة على بعض عناصر هذا العلم.. ولفظ [السياسي]، يطلق على مَن يتولّى الحكم في الدولة، وهو يدل على نوعين من الرجال: أحدهما رجل الدولة [Homme Politique]، وهو الذي يقيم الحكم على سنن العدل والاستقامة؛ والثاني رجل الحكم الماكر في الانتفاع بالظروف المحيطة به لتحقيق مآربه الشخصية بواسطة منصبه السياسي.. فإلى أي منهما ينتسب السياسي في بلادنا يا ترى؟
فارس محمد