“ قد اختلف معك بالراي ولكني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رايك” فولتير
دارت نقاشات عديدة حول الحرية والدين بين الفكر التقليدي السلفي أو المحافظ والفكر التحرري الانتقائي، وقد حاولت أن أتفحص المنطقين فلم أجد إلا التعصب والتطرف من الجانبين إما تفريطا أو إفراطا، فالسلفي يظن أنه حر في أفكاره ولكن السلف والتراث يفكران من خلال فكره، أما دعاة الحرية المطلقة فإنهم غالبا ما يفكرون في نطاق ثقافة كونية، عقلانية لا دينية فتغيب عنهم تماما أفكار وقيم المكان والزمان الذين يعيشونه،وبذلك نبقى حائرون في مثلث بدون رأس مكون من مواطن تائه ومتحرر غائب عن مجتمعه وشيخ غائب عن عصره.
مواطن تائه بين الشعارات والخطب العاطفية الضعيفة،لأن الكل أصبح يخطب في الناس بالدين والحرية من قرأ كتابا ومن قرأ ألف،من يفقه ومن يجهل والعامة لا تميز عموما من هو الأقرب إلى الحق إلا بثخانة الصوت واندفاع المتحدث اعتقادا منهم أنه عمق في الحجة والبرهان في حين أن الحمير أقوى صياحا لكن غالبا ما يدل صياحها على الشر والإنكاد وإن كانت تحمل أسفارا والثور أكثر اندفاعا لكن الماتدور الإسباني يضحك عليه بخرقة حمراء.
أما المتحرر فيعجز عن فهم الواقع والمجتمع ويمحو منه بعدا من أبعاده الرئيسية المكونة له وهو الدين وبالتالي يبقى تابع لكل المتغيرات الخارجية والمنظمات الدولية.
وفي المقابل يصعد الشيخ إلى المنبر وبيده مفاتيح الجنة والنار فيكفر ويفسق ويزندق ويخرج من الملة كل من يخالف فكره،ويكرر المكرر ويعيد إنتاج الخطاب القديم بمصطلحات جديدة،منغمس في الفكر النقلي التقليدي وفي تراث إسلامي كتب في ظروف سياسية مشبوهة،تعرض كل شئ فيها للتحريف لإرضاء السلاطين والحكام،ما عدا كلام الله الذي تكفل جلاله بحفظه ومع ذلك ألغيناه واتبعنا التراث والخلافات السياسية القديمة فكثرت الطوائف من سني سلفي ،صوفي وشيعي جعفري، رافضي وزيدي و"إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " فويل لأمة كثرت فيها الطوائف وغاب عنها الدين كما قال جبران.
ولذلك فإن الله لم يجعل للخليفة، ولا للقاضي، ولا للمفتي، ولا لشيخ الإسلام، أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام ولا يسوغ لواحد منهم أن يدّعي حق السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربه، أو ينازعه طرق نظره كما قال الإمام محمد عبدو فأين نحن من هذا الفكر المتسامح الذي يدعو إلى الابتعاد عن العقلية الأحادية،عقلية الاحتكار والوصاية على عقول الجماهير،عقلية تعتقد أنها الأبرز ومنقذة الأمة والشعوب فتنظر للٱخر إما مقدس أو حقير،ملك أو شيطان،معنا أو ضدنا وبالتالي فهي لا تؤمن بالاختلاف والتعدد وخصوصية الفرد فتربط الحقيقة بالأشخاص وليس بذاتها كحقيقة،فكل ما جاء عن ملحد،علماني أو شيعي هو زندقة وضد الدين وكل ما دعا له الشيخ حقيقة مطلقة بدون شك ولا نقد وإذا انتقدته فأنت تعارض أمر الله فنخلط الإلهي بالبشري.
وأنا متأكد أنني لو سردت مقولة لفولتير، ماركس أو الفيلسوف الملحد راسل ونسبتها لإبن تيمية أو شيخ ٱخر لقال الشيخ "الله أكبر" محاولا تبريرها بكل الحجج وإن كانت في مضمونها ضد الدين تماما والعكس صحيح بالنسبة للمتحررين لأننا أمة "تّسليم يا ابَّا ساسا هاقلبي، هاتخمامي ،هاباش ياتيني الله" ننطلق من التسليم و اليقين وليس من الشك للوصول إلى الحقيقة فكما قال نيتشه: "مَن أراد الراحة فليعتقد، ومَن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل" و الإمام الغزالي قال " أنا لا أخشي علي الإنسان الذي يفكر وإن ضل، لأنه سيعود إلي الحق، ولكني أخشي علي الإنسان الذي لا يفكر وإن اهتدى، لأنه سيكون كالقشة في مهب الريح"
والغريب أن الله الذي يحيي ويميت،يغني ويفقر أعطانا الحرية في الاختلاف معه بطاعته أو عصيانه والحساب يوم البعث "إن هديناه السبيل إما شكورا وإما كفورا" " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" أين أنتم يا دعاة الحرية من هذه الحرية المطلقة وأين أنتم يا شيوخنا من هذه الرحمة والتسامح.
إن المجتمع اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح والتعايش الإيجابي بين مختلف شرائحه: سني،شيعي مسيحي يهودي علماني وملحد وذلك بترسيخ شروط الحوار البناء الذي هو وثيقة اعتراف بوجود الٱخر كما هو وليس كما نريد."وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم " "كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون"َ
يقول المؤرخ توماس بري "فالقضية كلها قضية نظرة،ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة،فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم ولا نحن تعلمنا النظرة الجديدة "
شطينة علاء