سلسلة وقفات مع خطبة الجمعة للدكتور عبد الوهاب الأزدي بعنوان: الحلم و العفو
الحلم و العفو
في خطبة الجمعة ليوم 5 غشت 2016 بمسجد الفتح ميرلفت .
والحلم - بكسر الحاء - : الأناة وضبط النفس. ويطلق على العقْل في مقابل الجهل. والعفو سمت الصالحين الأنقياء ذوي الحلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازل عن الحق نوع إيثار للآجل على العاجل، وبسط لخلق نقي تقيٍّ . والعفو مأمور به شرعا قال تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين " ( الأعراف) .
والمقصود بالعفو أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك. وفي سورة البقرة "فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وعلى عكس ما يظن كثير من الناس فإن العفو والتجاوز لا يقتضِيان الذّلَّة والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار. والبخاري في صحيحه عقد بابًا عن الانتصارِ من الظالم، لقوله تعالى " وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون"(الشورى) . وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا".
ثم إنَّ بعض الناس قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه،لا ترى َ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي . ومَن هذا حالُه فهو عدوُّ عقلِه،حميم جهله تقول عائشة رضي الله تعالى عنها : ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل".
على أن الانتصارَ للنفس من الظلمِ وَّ العفوَ هو الكمالُ والتّقوى، قال الله "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (الشورى). ذلك كان سمة الرسول صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحاً، بعد سلسلسلة من المؤامرات والمعارك والقتال في بدر، وأحد، والخندق، وتأليب القبائل العربية عليه وعلى دعوته. دخل مكة دخول المتأدبين الشاكرين ، معترفاً بعظم الفضل ، ولم يدخلها دخول المتكبرين المتجبرين ، ثملاً بنشوة النصر .وسار النبي- صلى الله عليه وسلم- في موكب النصر " حانياً رأسه، حتى تعذر على الناس رؤية وجهه ، وحتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، مردداً ، بينه وبين نفسه، ابتهالات الشكر المبللة بالدموع" .
سأل أعداءه بعد أن استقر به المقام : يا معشر قريش : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فقالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم . فقال : " اذهبوا فانتم الطلقاء "، فعفا عنهم، وصفح عن أعمالهم.
وسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام ، بعدما لقي من إخوته من الحسد والأذى ما لقي قال لهم: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".
ولم يفترق هدي الصحابة عن هذا السمت في العفو والصفح، فقد روى البخاري عن بن عباس، عن عيينة بن حصن، أنه قال لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: يا ابن الخطاب، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ، إن الله قال لنبيه. "خذ العفو وأعرض عن الجاهلين"، وإن هذا من الجاهلين، فقال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله-عز وجل-.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، كان من قرابته مسطح بن أثاثة، وكان أبو بكر ينفق عليه، ويحسن إليه فلما خاض مسطح فيمن خاض في حادثة الإفك، حلف أبو بكر ألا يحسن إليه كما كان يحسن في السابق، فعاتبه ربه- عز وجل- وأنزل: " وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" (النور). فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إليه وكفّر عن يمينه.
وعمر بن عبد العزيز-رضي الله- كان يقول: " أحب الأمور إلى الله ثلاثة: "العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة".
وسئِلَت عائشة رضي الله عنها، عن خلُق رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: "لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح). " وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ " (الشورى).
لم تهتم الخطبة طبعا بلغو المستمع الداخلي الذي يردد مع نفسه " الذي غلب يعف" .فهل من متعففين في شوارعنا ونوادينا ومؤسساتنا التي تزحف طالبة للجهل متنكبة عن العرف، عن العفو !!!
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد الوهاب الأزدي ـ مراكش