قليلا من الشجاعة… كثيرا من الإنصاف
ليس أسهل من أن تحمل غيرك مسؤولية ما أصابك، وليس من طريق أقصر ولا أيسر لإراحة الضمير وتخليصه من تعب التأنيب وكلفة النقد وتبعات المراجعة من تحويل الاتهام لغيرك وإلباسه ما اكتسبته يدك، بل تلك أفضل المسالك لتبرير العجز والكسل والتخلص من مؤنة البحث والدراسة العميقة والنقد الذاتي المنصف.
هي الطريقة عينها التي بررت بها كل المآسي التي عرفها التاريخ الإسلامي، ابتداء بالأدوار الخيالية التي نسبت للشخصية المشكوك في وجودها عبد الله بن سبأ، وانتهاء بالمؤامرات الصهيونية بل العالمية على الإسلام والمسلمين، مرورا بالمجوس والصليبين وابن العلقمي والمنظمات الماسونية والشيوعية وكل المشاجب التي علقت عليها كل النكسات التي عرفها التاريخ الإسلامي وما أكثرها.
فليس أكثر جناية على أي ظاهرة تستحق الدراسة من تبسيطها وتسطيحها والتخلص من تبعاتها بجرة قلم أو عبارة رائجة، فإن كان ذلك يعفي المتناول للموضوع من استقصاء الجهد في الفهم وبذل كل الوسع في الاستيعاب، ويشعره بالتخلص من عناء القلق تجاه الظاهرة ويمكنه من التملص من المسؤولية، وكان ذلك يساعد على تقديم أجوبة نمطية مغرية للجمهور، متوافقة مع فهمه البسيط ، وتطلعه لأجوبة جاهزة تغطي جهله بالحقائق الموضوعية والتركيبات المعقدة ، فإن هذا التبسيط والتسطيح من شأنه عدم كشف الغطاء عن كثير من الحقائق المؤسسة للموضوع، ومن شأنه تقديم حلول غير مجدية ولا قادرة على المعالجة.
ومن آخر إنتاجات هذه العقلية المبدعة في تحميل المسؤولية للغير طلبا للراحة وتخلصا من الذنب إدراج تنظيم داعش ضمن طائفة الخوارج ، واعتباره امتدادا لتلك الطائفة التي كان بزوغها يوم أعلنت خروجها على خليفة المسلمين علي بن أبي طالب، ثم تطورت عبر فرق ومذاهب متفرقة، شأنها شأن كل المذاهب والطوائف عبر التاريخ.
ولا أقصد هنا باصطلاح (الخوارج) المحددات العملية والفكرية التي قد تشترك فيها بعض الطوائف وتتشابك ، فقد عرف التاريخ من الطوائف ما كان إسرافها في الدماء أوغل من الخوارج ولا تنسب إليهم ولا تحسب عليهم ، في مقابل طوائف منسوبة للخوارج لم تتورط في الدماء كما تورط غيرها ممن لا يشكل امتدادا لهذه الفرقة التاريخية، فأتباع عبد الله بن أباض أكثر مسالمة وأبعد عن الغلو والشطط من كثير من الفرق المنسوبة للسنة.
وإنما القصد ما كان من الطوائف امتدادا لفرقة الخوارج المعروفة تاريخيا والتي أفرد لها المصنفون في الملل والنحل أبوابا خاصة ومباحث منفردة، هم الحرورية والمحكمة والشراة وأهل النهروان، أحفاد نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق وعروة بن أدية وغزالة الشيبانية وعمران بن حطان، ممن يرون الخروج بالسيف على أئمة الجور ، ويعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلا من أصول الديانة ، ويكفرون مرتكب الكبيرة ويرون خلوده في النار، ويرون صدق الله تعالى في وعده ووعيده ، ويقولون بخلق القرآن ونفي المغايرة بين الذات والصفات ، ولا يحتجون بنصوص السنة، على اختلاف بينهم في الالتزام بكل هذه الأصول أو الاكتفاء ببعضها.
ومع أنه لا مانع لدي من إطلاق لقب الخوارج على كل من شاركهم في بعض المحددات الفكرية والسلوكية من الخروج على الجماعة و الغلو في التكفير والتشدد في التدين ، ولكن حقيقة الإشكال هو الخلط بين هذا الاشتراك وبين النسبة لتلك الفرقة التاريخية، لغرض غير بريء، وهو تبرئة التراث السني من غلو هذه الطوائف وتطرفها وتحميل وزره لطائفة أخرى مختلفة الأصول والمرجعية والامتداد.
فهل تمثل داعش امتدادا لهذه الفرقة التاريخية الموسومة بالخوارج؟ وهل تتوافق المرجعية العقدية للتنظيم مع أصول الفرقة واختياراتها العقدية؟ ومن أين يستمد مبرراته الشرعية في التأصيل لسلوكياته العنيفة وأحكامه الإقصائية؟ وهل نموذج الخلافة الذي يقدمه التنظيم مستلهم من أدبيات أهل السنة أم هي فكرة خارجية ؟ وما مدى الاتفاق والاختلاف بين النموذج السياسي الذي تقدمه داعش و ما سطره الفكر السياسي الإسلامي من خلال كتب الأحكام السلطانية ومصنفات السياسة الشرعية؟ وما هي الأصول والمراجع التي يتغذى منها القوم و ينهلون؟ وما هي مواطن الاجتماع والافتراق بين الطرفين..؟ .
رأي/ محمد عبد الوهاب رفيقي