|
|
إضاءة حول قصيدة تمهلي للشاعرة حكيمة مشهوري
أضيف في 09 مارس 2022 الساعة 07 : 21
إضاءة حول قصيدة تمهلي للشاعرة حكيمة مشهوري
عبد القادر كلول تمهلي.... لا ترحلي إبقي لأجلي.. لا تقتلي أملي وتطفئي شمس ليلي لا تخذلي سنين سيلي تريثي لا تستعجلي كوني للعهد وفية اصبري وتحملي لسع الليالي شدي على يدي أحسي بآمالي. واعزفي لحن أحلامي كما تعزفين لحن آلامي..
في الشعر كما في الحياة، ثمة تفاصيل دقيقة تمنحنا القدرة على تدبر ما فيه من جمال، تلك التفاصيل التي تصنع برزخا بينه وبين الكلام العادي والمفاهيم المتداولة والمألوفة، والمتلقي ملزم دائما بالغوص على اللآلئ الكامنة بين الكلمات ليحظى بصيده الثمين ويستمتع بالتالى بنسغ الشعر وحلاوة المعاني. ومن هنا أجدني منبهر بهذه القصيدة الخصبة بكل معاني الشعر ومشاعر الذات الرهيفة، بدءا من عنوان النص الذي هو المدخل المعبد نحو المحطات المختلفة داخل متن القصيدة.
"تمهلي" هو فعل أمر من التمهل، بمعنى الروية وعدم التسرع والتمهل دئما يدفعنا لأخذ الحيطة والحذر حتى لا نقع في المطبات، وما أكثرها في مسالكنا وساحاتنا ونحن نقصد وجهاتنا المختلفة، ثم إنها دعوة كونية يشترك فيها ماهو إنساني وما هو عقَدي، درءا للإنسياق غير المحسوب العواقب وتفاديا أيضا لكل ما يمثله الانزياح الفوضوي من ظلم وخروج عن طبيعة الكائن البشري السوي والمتزن، ففي السرعة والتسرع دائما تكمن المصائب وتختبئ الكوارث، والكيس هو من يكبح جموح النفس قبل أن تقع في المحظور ويجبل نفسه على حساب الخطوات بميزان الربح والخسارة..
بعد هذه التوطئة المختصرة لابد من المرور السلس نحو صلب الموضوع ولب القصيدة. في المطلع يستوقفنا فعل الأمر وقد بسط جناحيه ليصنع امتدادا للعنوان في رسم ملامح هذه القصيدة الجميلة، جمل قصيرة تبتدأ أحيانا ب "لا" الناهية لكن ليست أوامر كما يبدو من سياقاتها المتعددة بقدر ما هي استعطافات تعمدت الشاعرة التعبير بها عن تلك الخوالج المحترقة بحثا عن الإنصاف.
"لا ترحلي.." "إبقي لأجلي.."
كلنا نعلم مضاضة الرحيل وحرقة الفقد، من منا لم يحزن على فراق أحد ما أو شيء ما، من منا لم يذق طعم المر وهو يشيع عزيزا إلى غير رجعة، من لم تبتل رموشه بالدمع المالح حسرة على ضياع فرصة العمر أو انفلات خيط أمل من بين أصابعه في أشد لحظات عمره حرجا؟..
إن الرحيل لشيء مفزع ومفجع في آن واحد، لذلك إلتجأت شاعرتنا لهذا الأسلوب الذي يحاكي نبضات القلب لتطرق مسامع دنياها لثنيها عن الرحيل، وكأني بها الشاعر الجاهلي امرؤ القيس وهو يخاطب حبيبته:
أفاطِمُ مهلاً بعض هذا التدلل وإن كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي
إنها تخاطب دنياها واثقة من أخلاصها وقدرتها على الإنصات، تناشدها الرفق والتجمل في أخذ القرار وأن لا تقتل أملها: " لا تقتلي أملي.." و" تطفئي شمس ليلي.." ما أروع تعبيرها هنا عن الرجاء الكبير الذي يستوطن قلبها.. حقيقة فالرجاء هو الحبل السري الذي يربطنا برحم هذه الحياة، وهو الشمس التي تنير أنفاقنا بالليل والنهار، ولولا هذا الخيط الرفيع لما أصبح لوجودنا معنى ولانهزمنا أمام أول عثرة وأول انتكاسة.. أو ليس خفوت شمس الأمل واستئساد ظلام اليأس هو من يقود المحارب إلى الهزيمة مهما كان إيمانه بعدالة قضيته التي من أجلها يحارب؟ ولا عجب أن يسلم الكثير من المحبَطين أعناقهم لحبال المشانق ويصبح آخرون وجبات للأسماك في عمق البحار.. الأمل وصفة مثالية للحفاظ على التوازن النفسي، وكم نحن مدينون في وجودنا في هذا اليم الذي تتلاطم فيه أمواج اليأس للذين علمونا كيف نجدف ونفخوا رياح الأمل في أشرعتنا لتقودنا إلى ضفة الخلاص.
"لا تخذلي سنين سيلي تريثي.."
هنا لابد من التوقف مليا والتأمل في قوة المفردات وعمقها البليغ، فالشاعرة يبدو أنها لا تستنجد بهذه المفردات عبثا ولكنها تختار الكلمات الزاخرة بالمعاني المحددة والتي تصيب قلب الهدف. الخذلان هو الفعل الشنيع الذي يغتال كل حي فينا ويقدم تضحياتنا قربانا للنسيان. وقد أشارت بوضوح لهذا السيل العارم من التضحيات والمواقف التي تبنتها وماتزال، موجهة كلامها دائما لمخاطبتها ألا تتنكر لها وتدعها تجري مجرى السيل نحو بحر الإهمال. تستعطفها أن تتريث قبل إصدار حكمها الجائر والرحيل.. هذا الخطاب المشبع برطوبة التصوف هو كنه الجمال في قصيدة الشاعرة. اللجوء دوما نحو مخاطبة الروح يختصر الطريق على المتلقي لهضم المعاني والْتِماس المغازي بيسر ووضوح، ويعطيه بالتالي الاستمتاع بلذة الاكتشاف. وبالطبع لن يتأتى كل هذا بغير التأمل الرصين والهادئ بعيدا عن سرعة الفعل والانفعال. فالشعر لمح كما وصفه البحتري، تكفي إشارته وليس بالهذر طولت خطبه، وقد كان محقا في الوصف، أليس هو من أطلق على شعره وسم سلاسل الذهب. ولأنه لمح فقد يحتاج عينا سليمة النظر وأذنا رهيفة السمع تلتقط الهمس وتصغي بإحساس.
"لا تستعجلي كوني للعهد وفية.."
ونحن نتقاسم هذه الاستعطافات لا بد أن نمضي سويا في كشف أسرارها إذ كلما غصنا نحو الأعمق صادفنا حلاوة أكثر وتجليات أعمق. هنا تتحدث الشاعرة عن الوفاء كأنما أرادت أن تذكرنا بواحد من أركان العلاقة السليمة التى تجمع بين إثنين، وهو ركن لا تستقيم أي علاقة بدونه، والتجارب علمتنا أن الخيانة تهدم الأركان وتنسف الثقة وتجعل الطمأنينة أبعد ماتكون عن النفس المكتوية بنارها. لذلك ظلت شاعرتنا وفية لهذا النسق الخطابي الذي سارت عليه في الأبيات السابقة مذكرة هذه الدنيا المتعسفة والظالمة بناموس الكون الذي يجب أن نحترمه ألا وهو العطاء مقابل العطاء والجزاء من جنس العمل، وطالما أنها قدمت بسخاء فمن حقها أن تكافأ بمثل بذلها إن لم يكن أكثر، لو كان حقا عدل في هذا الوجود وكان هناك من يكفكف دمع التعساء.
"اصبري وتحملي لسع الليالي.. شدي على يدي.."
ولعمري أن أقل ما يمكن لعاجز عن منحك صك الخلاص أن يحسن الربت على ظهرك والمسح على رأسك ويخفف الهون عليك، السخاء في العطاء لا يكون دائما بتحقيق الوعود لكنه يكمن أيضا في تغيير نظرتنا إيجابا لهذا الوجود.. ليس هذا اقتناعا بالقليل بعدما فقدنا الكثير بيد أنه فلسفة البقاء والوجود في أصدق تجلياته.. التآزر والرحمة مفعولهما آني وسريع تماما كالإسعافات الأولية تبطئ الداء وتجدد الأمل في معانقة الشفاء.
"واعزفي لحن أحلامي كما تعزفين لحن آلامي..
هكذا تختتم الشاعرة قصيدتها بهذا العتاب مستنكرة كل هذا التغول في الإيذاء والجحود آملة من تلك اليد التي تصر على العزف على أوتار الأحزان أن تبدع أيضا في مداعبة أوتار الفرح، هكذا ستصدح سمفونية الحياة انتقالا بين كل الأوتار ورقصا على كل الإيقاعات تحقيقا للعدل الرباني: إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا. صدق الله العظيم
|
|
|
[email protected]
التعليق يجب أن يناقش موضوع المادة
|
|
|