كشفت وثائق تمّ العثور عليها في أقبية المخابرات الليبية بعد سقوط طرابلس وهروب العقيد معمّر القذّافي وأعوانه، عن وجود تعاون وثيق بين عدد من أجهزة الاستخبارات الغربية من جهة والقذّافي من جهة ثانية، تحت عنوان مثير هو: «معلومات استخباريّة في مقابل أموال وامتيازات نفطيّة». في مقدّمة الدول الغربية المشار إليها، تأتي كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، إضافة الى غيرها من الدول.
«المشاهد السياسي» ـ لندن
أكّدت مسؤولة مكتب منظّمة «هيومن رايتس ووتش» في القاهرة، هبة مرايف، أن الاتّهامات التي وجّهتها هذه المنظّمة الحقوقية الأميركية لعدد من الدول الغربية بالتعاون الاستخباراتي الوثيق مع نظام القذّافي، باتت مدعّمة بعدد كبير من الوثائق السرّيّة التي عثر عليها فريق المنظّمة في مكتب وزير خارجية ليبيا السابق، موسى كوسا، إبّان قيادته الأمن الخارجي في ليبيا. وأضافت أن المقابل الذي تلقّته الدول الغربية نظير هذا التعاون كان الحصول على معلومات تخصّ قضايا الارهاب، وكذلك على امتيازات في مجال البترول.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، حدّ الوثائق الليبية فقط. فقد قال مسؤولون في بريطانيا إن تحقيقاً مستقلاًّ سيجري في كل ما يقال عن ضلوع أجهزة أمنيّة بريطانية في تسليم إرهابيين مشتبه فيهم بصورة غير مشروعة الى ليبيا، مما جعلهم نتيجة ذلك عرضة للتعذيب على أيدي أجهزة الأمن في نظام القذّافي.
توجّه فريق من منظّمة «هيومان رايتس ووتش» الى طرابلس وزار عدداً من مكاتب جهاز الأمن الداخلي والخارجي، ووجد مستندات كثيرة في مكتب موسى كوسا الذي كان مسؤول الأمن الخارجي لسنوات طويلة، ليتبيّـن بعد التدقيق فيها أن بعضها يخصّ أجهزة استخبارية أجنبية، خصوصاً منها الأجهزة الأميركية والبريطانية.
وجاء في هذه الوثائق، أن جهاز الاستخبارات البريطاني بدأ تعاونه مع استخبارات نظام القذّافي منذ العام 2003، عندما قرّر الأخير التخلّي عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، وأن الجهاز البريطاني كان هو من توصّل إلى هذا الاتفاق معه، لتبقى العلاقة بعد ذلك وطيدة جدّاً بين موسى كوسا ورئيس جهاز المخابرات البريطانية في ذلك الوقت.
والأمر نفسه تم مع فرنسا، خصوصاً مع بداية العام 2007ثم في العام 2008عندما زار الرئيس نيكولا ساركوزي ليبيا لأول مرة، ثم زار القذّافي باريس تلبية لدعوة منه، وكذلك بالنسبة لجهاز الاستخبارات في ألمانيا. أما الوثائق التي تؤكّد تسليم المعتقلين من قبل الأجهزة الأمنيّة هذه، وخصوصاً الأميركية، فتعود الى الأعوام الممتدّة بين 2002و2004. وتكشف الوثائق أن إعادة المعتقلين هؤلاء تمّت بعد احتجاز غير قانوني من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه»، وبعد تعذيبهم أشهراً طويلة في أماكن مختلفة مثل تايلاند وماليزيا والعراق، ثم إعادتهم إلى ليبيا بطرق غير قانونية واحتجازهم بعد ذلك سنين طويلة في معتقل أبو سليم في طرابلس.
أوجه التعاون
في سياق ما يسمّونه «محاربة الارهاب» بعد أحداث 11أيلول (سبتمبر)2011، كان هناك تبادل للمعلومات، لكن كان هناك أيضاً تعامل غير قانوني برّر بمحاربة الارهاب. فقد وجد أن جهاز «سي آي إيه» كان يحتجز المواطنين الليبيّين لمدد طويلة بطرق غير قانونية، ثم تتمّ إعادتهم إلى ليبيا بطرق غير قانونية أيضاً.
لكن المثير أنه منذ العام 2003، عندما قرّر القذّافي إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا، تبيّـن عدم وجود ضغوط من هذه الدول على ليبيا لاتّخاذ إجراءات لحماية حقوق الإنسان فيها، وأن الأولويات كانت بالنسبة لهذه الدول تبادل المعلومات مع نظام القذّافي بشأن محاربة الارهاب، والعمل المشترك على الحد من الهجرة غير الشرعية، وأيضاً قضية البترول والاستثمار الأجنبي في ليبيا.
وتبيّـن من الوثائق، أنه كان هناك تسامح مع عودة العلاقات مع القذّافي، بالرغم من انعدام أي تغيير في سياسة القمع التي كان ينتهجها، وهكذا عادت ليبيا لترؤّس الجمعية العامّة للأمم المتحدة، وأصبحت في وقت ما رئيسة مجلس الأمن الدولي، وكل ذلك كان يعني أن هناك قبولاً دولياً لعودة القذّافي إلى الساحة الدولية من دون الضغط عليه للقيام بإصلاحات داخلية.
وفي اعتقاد منظّمة «هيومان رايتس ووتش»، التي اطّلعت على هذه الوثائق، أن الفرصة باتت متاحة الآن من أجل الضغط ليكون هناك أولاً تحقيق في ممارسات الماضي، وثانياً من أجل تسليط الأضواء على قضية عدم الاهتمام بما يسمّى بالضمانات الديبلوماسية التي كانت تعطى من قبل السلطات الليبية بأنه لن يتم تعذيب الأشخاص الذين تتم إعادتهم إلى ليبيا.
وعلى سبيل المثال، فقد تبيّـن أن المعتقل في سجن أبو سليم في بنغازي، عبد الحكيم بلحاج، قد تعرّض لتعذيب على أيدي السلطات الماليزية بادئ الأمر، ثم السلطات الأميركية قبل أن يعاد إلى ليبيا بصفقة بين أجهزة الاستخبارات، ليحاكم من قبل محكمة أمن الدولة فيها من دون محام وأي ضمانات بمحاكمة عادلة. وأهم شيء في هذه الحالة ممارسات نظام القذّافي بمشاركة من الدول الغربية في انتهاكات حقوق الإنسان.
.. والاستخبارات الألمانية
ليس ذلك فقط، فقد كشفت معلومات صحافية ألمانية عن تلقّي الاستخبارات الألمانية من جهتها معلومات من نظيرتها الليبية. وذكرت صحيفة «بيلد إم سونتاغ» الألمانية أن برلين، على غرار لندن وواشنطن، تلقّت معلومات من أجهزة استخبارات القذّافي من دون المشاركة في عمليات مباشرة مع النظام الليبي.
ونقلت الصحيفة عن براند شميدباور، المسؤول عن تنسيق جهاز الاستخبارات الألماني بين عامي 1991و1998، أن «الأمر يتعلّق أولاً بمعلومات مرتبطة بمكافحة الارهاب لحماية المصالح الأمنيّة الألمانية». إلا أن برلين نفت أن تكون قد تعاونت بشكل وثيق أكثر من ذلك مع الاستخبارات الليبية، مؤكّدة «لم نتجاوز هذا الخط». وقال متحدّث باسم الحكومة الألمانية: «كالعادة لا تعليق لدينا بشأن القضايا الاستخباراتية.
المشاهد السياسي
أسبوعية جامعة