|
|
بعض ما جاء في باب الحرّية والالتزام
أضيف في 17 أبريل 2019 الساعة 05 : 16
بعض ما جاء في باب الحرّية والالتزام
ميدان السّياسة؛ لا، بَلِ الحياةُ برمّتها، تقتضي التقيّد بمبدإ أساسي لبلوغ الأهداف المنشودة، وهو ما أوصى به الإسلامُ في الدّين، والإيمان، والأعمال بشكل عامّ، ومن دون هذا المبدإ الهام، فلن يكون للفرد قيمة، ولن تقوم له قائمة، ولن تكون حياتُه ذات أهمّية تُذكر؛ فما هو هذا المبدأ الذي تخلو منه حياةُ، وسياسةُ، وممارساتُ الكذَبة والمنافقين الذين وَلَغُوا في إطار المسؤولية ببلادنا، ممّا جعلنا لا نخطو ولو خطوةً إلى الأمام في كافّة الميادين، وسائر المهام؟ إنه [الالتزام] الغائب في دنيا سياسة (الخُورْدة) البالية التي تعاني منها بلادُنا في الحكومة، والبرلمان، وكافة المؤسّسات الشّكلية التي عجّتْ بالذين يبْغُونها عِوَجًا، وأغلَبُهم فاسدون، وناهبون للمال العام، باسم قانونٍ سنّوه هم لتغطية عمليات النّهب، مثْل تقاعُد (بنكيران)، وتقاعُد النواب، وتعدّد التعويضات، وتفشّي الرّيع المريع في البلاد، وسفينتُها تنحو تمامًا إلى عيْن إعصار مدمّر على وشك الحدوث..
لكنْ ما هو (الالتزام) يا ترى؟ يقال: التزم الشيء، أو العمل، يعني أوْجَبه على نفسه.. والملتزم هو الرّجل الذي يوجب على نفسه أمرًا لا يفارقه، ومنه العقل الملتزم، وهو العقل الذي ينظر إلى ما تتضمّنه أحكامُه من النتائج الاجتماعية، والأخلاقية، والسياسية، والثقافية، بعين الجِدّ والرّصانة، أو العقل الذي يقرّ بوجوب وفائه بعهده، والتقيد بوعده، وبضرورة محافظته على حقّ الأمانة في تأدية رسالته.. ومن شرْط الالتزام أن يكون له غاية اجتماعية، أو خُلقية، وأن يكون مبنيًا على مبدإ يقْبله المرء بإرادته العاقلة، ولذلك كان معنى الالتزام قريبًا من معنى الإخلاص، والصّدق، والاستقامة، وهي كلّها قيمٌ يتضمّنها القسَمُ الذي يؤدّى بيْن يدي جلالة الملك نصره الله، وبصوت جهوري، حتى يسمعه الناس كافّة…
وإذا أُطلق الالتزامُ على التفكير الفلسفي، دلّ على ارتباط هذا التفكير ببيئة معينة، وموقف معيّن يحدّدان بعض شروطه.. دَعْ أنّ الوجوديين المعاصرين يقولون: إنّ الالتزامَ هو الاهتمامُ بتعديل الحاضر في سبيل بناء المستقبل، وهذا لا يتحقق إلاّ بالحرية، لأنّ الحريةَ، كما يقول [سارتر]، هي الْتزامُ الحاضر لبناء المستقبل، وهي تخلق مستقبلاً يعين على تفهّم الحاضر، وتغييره؛ جاء هذا في كتابه (مواقف) ص: (205 و206)؛ فللالتزام إذن جانبان، أحدُهما معْياري أو وجوبي متعلّق بالمستقبل؛ والآخر واقعي أو حقيقي راجع إلى الحاضر والماضي.. وقد انتشر لفظُ الالتزام في الفلسفة الحديثة بتأثير جماعة (Esprit)، ولا سيما بتأثير (عِمانْويل مُونْييه) الذي ذهب إلى أنّ الالتزامَ هو الأمانة.. قال: [إنّ الكلامَ الخالي من الالتزام ينقلب إلى فصاحة جوفاءَ؛ والفصاحة الأدبية لا تخلو في جوهرها من الرّياء، وإنْ كان خفيًا.] ويظهر هذا في حديث [العثماني] رئيس الحكومة المشؤومة، ووزرائه الغُثائيين الذين فقَدَ الشعبُ ثقتَه بهم مرة واحدة وإلى الأبد، لأنّ الحكومة ليست حكومة الشعب، وإنّما هي حكومة الكذب والنهب.. والالتزام تجده عنوانًا للفلسفة الوجودية التي تسمّى [فلسفة الحرية والالتزام].. والعبيد لا يمكن أن يكونوا ملتزمين بأية حال من الأحوال ولكنْ مَن هم العبيد؟
يجيب على هذا السؤال فيلسوفٌ عملاق اسمُه [هيْجَل] بقوله إنّ العبد هو كل من يرفض الحرية لغيره، لأنه هو في الأصل ليس حرّا، وإنْ تظاهرَ بحرية وهمية؛ والأمّةُ الراقية هي مَن تكون فيها حرّية مقابلَ حرية أي مواطن حرّ يتحدّث إلى مواطن حرّ.. وإذا أمعنْتَ النظر في مَن هم منقضّون على رقاب شعبنا، تجدهم مجرّد عبيد؛ فمنهم من هو عبدٌ لأهوائه؛ ومنهم من هو عبدٌ لأمواله؛ ومنهم من هو عبدٌ لفروج ليست عليها أقفال؛ وكلهم عبيد في زنزانة (البنك الدّولي)، يعملون بإمرته، ويخذلون الشعب بوصاياه، ويستعبدون المواطنَ بلُقْمة عيشه، أو بتخويفه بالهراوات، أو المذكّرات، أو القرارات البغيضة؛ وهم كلّهم في النهاية عبيد لا شكّ في ذلك.. لماذا بُهْدلت السياسة، وضَعُفَ الفنُّ في البلاد، وعمّ بؤسُ الثقافة؟ السبب واضح، هو خُلُو المجتمع من الالتزام، واستبدال الحرّية الحقيقية بوهم الحرّية.. لقد تحرّر المسلمُ عندما جاء الإسلام، ولكن بعد سنين من وفاة النبي الكريم، عاد العبيدُ الذين حرّرهم الإسلامُ إلى العبودية من جديد؛ نعم؛ بقي من الإسلام اسمُه، ومن القرآن رسمُه، وخضعَا لعملية الانتقاء حسب الظروف السياسية.. كان الفيلسوف [هانري بيرغسون] يقول إنّ الإنسان، وإنْ كان وراء القضبان، فإنّه يبقى حرّا إذِ الجسد وحْده هو السجين.. فأجابه [سارتر] ساخرًا: [ولماذا قاومْنا النازية، فقد سجنتْ منّا الأجساد، والفرنسيون كانوا أحرارًا حسب حرّية (برغسون)، يا له من هُراء!] فالحرية يقول [سارتَر] لا تقدّم كهدية على طبق من ذهب؛ فهي نضالٌ، وكفاح، وأخْذٌ باستمرار، لأنها بطبيعتها ناقصة، و(الآخر) يهدّدها؛ كما أنه لا التزام بدون حرّية؛ فهل هؤلاء الذين يديرون شؤونَنا، أحرار وملتزمون؟ الواقع يجيب بالنفي القاطع..
بقلم/ فارس محمد
|
|
|
[email protected]
التعليق يجب أن يناقش موضوع المادة
|
|
|