لا إدارة مواطنة بدون مواطن إداري
ما إن خمدت قصة مي فتيحة رحمها الله، حتى اشتعلت حكاية أكثر مأساوية لمحسن فكري رحمه الله، تاجر السمك الذي سحق مع سمكه. صورة المرحوم و هو مسحوق بين ضفتي شاحنة جمع النفايات، لا يظهر منه سوى وجهه المغمض العينين ، المختنق و المثقل بالكدمات و يده الممدودة نحو الافق كأنها تبحث عن طوق نجاة، لا يمكن تجاهلها أو نسيانها. و من المؤكد أنها ستظل من الصور الخالدة في تاريخ المغرب الحديث و التي ستطل علينا من الأرشيف بين الفينة و الأخرى و سيتم استغلالها على صفحات الجرائد و في الإعلام كلما ظهر حدث جلل يستحق الركوب عليه. فصورة المرحوم محسن فكري و هو مسحوق في شاحنة النفايات مأثرة و تدغدغ مشاعر الإنسان الأكثر تحجرا و تخاطبه بدون رتوش أو حواجز، و هي أكثر نفاذا من جميع الخطب البراقة و الشعارات المزلزلة، و أكثر صدقا من كل الكلمات.
الصورة تأتي بعد أيام قليلة من الخطاب الملكي حول أزمة الإدارة و ضرورة إصلاحها لتستجيب إلى تطلعات المواطن بعيدا عن الحسابات السياسية. و كأن الصورة ترد على الخطاب الملكي قائلة " نعم يا مولاي حفظكم الله. توجد أزمة بين المواطن و الإدارة. و هي تتسع يوما بعد يوم و قد تبتلع البلاد و العباد".
فقد تكون حكاية مي فتيحة و محسن فكري رحمهما الله مختلفين في المكان و الزمان و التفاصيل، و لكن متشابهين من حيث الجوهر و العمق لأنهما يفضحان بالملموس أزمة الإدارة و علاقة المواطن مع السلطة.
فالمواطن المغربي لا يثق بالمرة في الإدارة و هو في تفاوض دائم مع قراراتها، فلا يمتثل لمساطرها و لا يكترث كثيرا بقوانينها و يرى أن معظم موظفيها يمكن التأثير عليهم بطريقة أو بأخرى. إما بالتفاوض الودي مع الموظف المسئول عن الملف، أو عبر الصراخ و الاحتجاج المباشر و التجييش و استعمال الهواتف الفوقية. فالإدارة بالنسبة إليه ليست أكثر من مصلحة شخصية عليه أن يغتني بقراراتها و رخصها و لو على حساب القانون و حقوق الجماعة.
و عندما أتحدث عن المواطن فإنني لا أستثني أصحاب المال و الاقتصاد الذين يضغطون بكل ثقل على السياسيين لإخراج قانون يخدم بالدرجة الأولى مصالحهم، و مع ذلك يتحايلون بمختلف الوسائل على الإدارة ليتجاوزوه و يمتنعون عن تطبيقه. و كثيرا ما تجدهم يقحمون الإدارة في صراعاتهم و منافساتهم الاقتصادية مع بعضهم، فينقلون معاركهم إلى ردهاتها فيدخلونها في متاهات لا تعنيها في شيء.
و عندما أتحدث عن المواطن فإنني لا أستثني السياسيين، الذين يستغلون الإدارة في تصفية صراعاتهم السياسية. فتارة تجدهم يعرقلون و يشوشون على عمل الإدارة فقط لأن المسئول على رأس الإدارة يحمل قبعة حزبية منافسة لحزبهم فتجد الإدارة تعيش حالة من العرقلة و لا استقرار تنعكس على مردوديتها و قراراتها، و تارة ستجد المتعاطفين الحزبيين يطلبون منها الامتيازات تلو الامتيازات و كأنهم يعتقدون أن الإدارة ملكا لهم ما دام وزير قطاعها ينتمي إلى حزبهم.
و عندما أتحدث عن المواطن فإنني أتحدث أيضا عن المواطن العادي، الذي يخرق القانون باستمرار و يدافع بشراسة عن حقه في تجاوز القانون بسرد وضعيته الاجتماعية و التباكي و التظاهر بالمظلومية. ففي ثقافتنا السائدة، محسن فكري رحمه الله كان يسترزق، و مي فتيحة رحمها الله كانت تتمعش، و البناء العشوائي ضرورة اجتماعية لمحاربة أزمة السكن، و الترامي على أراضي الدولة وسيلة لمحاربة الهشاشة الاجتماعية، و الموظفون الأشباح و التوظيف بدون مباراة و الترقية بدون وجه حق هو نوع من الهبات و المساعدات الاجتماعية،...
فالمواطن المغربي يتعامل مع الإدارة بمنطق العائلة أو الدار الكبيرة، حيث جميع الأطراف تتدخل فيها بقصد أو عن دون قصد، فالكل يحشر أنفه في شؤون الكل. فأخبار معظم القطاعات و الإدارات الحيوية من ملفات و موظفين ستجدها في المقاهي منشورة كل مساء، حيث الكل يفتي و يعتقد و ينتقد عمل الإدارة و فيما قام به فلان و ما أصاب علان.
و الشريط الذي يوثق حادثة تاجر السمك المرحوم محسن، يظهر بالواضح كيف تشتغل لجان المراقبة و الظروف التي تشتغل فيها، حيث يتجمهر المواطنون عليها و يكثر الصراخ و الصخب، و يصبح كل المواطنون معنيون و يدلون بآرائهم و في الغالب يتعاطفون مع المخالف لانهم يرون فيه أنفسهم. فيشعر المخالف بالدعم و المساندة المعنوية فيتقوى و يبدأ في مواجهة مباشرة مع السلطة، فتتعقد اللجنة و يبدأ التشابك بين الطرفين لينتهي عمل اللجنة بتحريرها لمحضر مختوم عليه "أجل لصعوبة التنفيذ ".
لهذا السبب، يستحيل تصديق أن موظفا مهما كانت درجته أو رتبته سيضغط على الزناد لسحق أحد المواطنين و خاصة أن المقاربة الاجتماعية تظل هاجسا لدى الإدارة المغربية. فالمرجح أن الحادث عرضي و قضاء و قدر. و لكنه عرى الإدارة المغربية و أظهر محدودية المقاربة الاجتماعية.
فالموظف أصبح مغلوب على أمره، مطحون بين المقاربة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، عاجز عن تطبيق المساطر و القوانين. و في كل زوبعة يتم التضحية به دون أن يفكر أحدهم في إصلاح المنظومة أو حتى المساس بها. و لكن الإصلاح الإداري يعني الانتقال من منطق التوازنات إلى منطق المؤسسات، و من قانون القوة إلى قوة القانون. و لكن هل تقبل بنيتنا الاجتماعية و الثقافية و السياسية بكذا إصلاح؟
أمل مسعود