|
|
الضريح...
أضيف في 13 مارس 2021 الساعة 52 : 19
الضريح...
عبد القادر كلول/ القصيبة
"جميلة". اسم على مسمى، وحيدة أبويها لم تلج المدرسة قط. تعلمت لبضع سنين في المسيد، كانت مجدة في التحصيل غير أن أباها آثر إبقاءها حبيسة البيت لما لاحظ علامات الأنوثة بادية على جسدها الغض، وخشي عليها من ذئاب البشر المتربصة. باتت أيام "جميلة " رتيبة. لم تعد تشعر أبداً أنها طفلة، لا تغادر عتبة الدار إلا إلى الزريبة لإطعام عنزتها المؤنسة الوحيدة لعزلتها، تخاطبها ببضع كلمات تكسر بها السكون المطبق حولها طوال النهار ثم تعود قافلة إلى عالمها المظلم قرب أمها المريضة! على بعد مسافات من منزلها المنعزل، حياة أخرى وعالم آخر محرم عليها، لا تستطيع الولوج إليه؛ أطفال في مثل سنها ينطون ويقفزون. يملؤون الفضاء بشغبهم الطفولي البريء.
كثيرا ما كانت تبتسم وقد طار بها خيالها ورمى بها بينهم تشاركهم ألعابهم وتنط كما ينطون، قبل أن تستفيق من غفوتها وتدرك أنها كانت فقط تحلم. فتستسلم لبكاء صامت وتتجرع حسرتها المريرة. أمها امرأة لم تتجاوز عقدها الخامس لكن المرض أنهكها وأحالها إلى كومة عظام لا تتحرك، ولا تستطيع تغيير واقع ابنتها الوحيدة، فهي فعلا تحبها ويؤرقها مكوثها في البيت طوال الوقت بعيدا عن عالمها الطفولي، غير أن خشيتها من إيقاظ غضب زوجها المتسلط، يحول بينها وبين السماح لها بالخروج واللعب بعيدا عن البيت. فهي ما تزال تذكر تهديده لها بالطلاق إن خالفت يوما أوامره أو نواهيه!
الأب فلاح بسيط يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد، يحضر باستمرار دروس الوعظ في حلقة فقيه الدوار بعد صلاة العصر، الفقيه الذي تعددت مهامه، من إمامة الناس وتلقين الأطفال في المسيد وصاحب البركة الذي لا غنى للمرضى والمسحورين والذين يطاردهم النحس أو تصيبهم العين ... مرة يرقيهم بالقرآن وتارة يبخ من فيه على رؤوسهم ماء البركة الذي يعده ... وتارات يكتفي بلمس مواضع الداء و دلكها برفق.
وفي كل مرة ينال تقدير وتوقير مريديه المرضى والأصحاء على السواء، رغم أن لا أحد يعلم شيئا عن أصله وفصله، إلا ما باح به ذات يوم حين حل بالقرية يسأل عن المسجد ليقضي فيه ليلته بعدما انقطعت به السبل، فاستضافه الأب في بيته ليعلم منه أنه طالب علم ينتقل بين الزوايا، أتم حفظ القرآن. ولما صادف مجيئه شغور منصب الإمام، قرر أهل القرية جعله إماما عليهم ومعلما لأبنائهم في المسيد.
"الله يرحم من قراه". يردد الأب الأمي حين يأتي ذكر الفقيه على لسان زوجته إبان الجلسات المسائية في البيت حين تخبره بعيادته ورقيته التي تشعر بعدها بتحسن حالتها .. الفقيه محل ثقة الأب لا تتسرب أليه الشكوك ولا تضايقه زياراته المتكررة إلى بيته ولو في غيابه. فهو التقي الورع، الحامل لكتاب الله، حكيم البلدة ومعلم أهلها الفروض والطاعات. ما أشد فرحة جميلة حين يزورهم الفقيه حاملا معه بعض الهدايا التي تدخل السرور على قلبها، تحرص كل مرة على استقباله قبل الجميع، ترتمي في حضنه وتقبل يديه وقد غمرها بحنان طالما افتقدته من أبيها! وهي رغم كل الحب الذي تكنه له لا تجرؤ على النظر في عينيه. أما هو فقد كان يستغل حياءها ليملي ناظريه بجمال قوامها وفاكهتيها النيئتين اللتين تبرزان من صدرها الصغير.
انشغال الأب بفلاحة الأرض والحرص على حضور مجالس الفقيه ثم مرض الأم وفراغ البيت من دفء الحنان، حرمانها من أبسط حقوقها كطفلة ما زالت تشتهي اللعب ومحاكاة شغب أقرانها الأطفال، كلها غصات تتجرعها جميلة التعيسة في صمت. إلى أن طفح الكيل ذات مساء لتستسلم لنوبة صرع مفاجئة أفزعت أمها العليلة ولم تدر ما تصنع غير رفع صوتها بالنواح، كمن يوشك أن يودع عزيزا إلى مثواه الأخير. تعالى زعيق ندبتها واخترق جدار الصمت حتى وصل أسماع الجيران الذين هرعوا مذعورين، معتقدين أن الموت سرق روح المرأة المريضة، ليصطدموا بمنظر جميلة وهي تتلوى وقد اعوجت أصابعها والزبد يتقاطر من فمها كأنما لبسها مارد من مردة الشياطين.
"حين تموت البقرة تكثر السكاكين!"
مثل ينطبق على المشهد المحزن لسقوط جميلة. فالكل بعد الفاجعة تقمص دور الحكيم. شرعوا في اقتراح العلاج الشافي و البلسم الناجع. فمنهم من يوصي بزيارة أولياء بعينهم ومنهم من يدل على عشاب معروف، ومنهم من ينصح بتناول أطعمة معينة. الكل يدلي بدلوه ويجترون تجاربهم ومشاهداتهم لحالات مشابهة منَّ الله عليها بالشفاء ونالت بركة الصالحين. إلا الطبيب لم يأت ذكره على لسان أحد!! حضر الأب أخيرا بعدما تناهى إلى علمه ما حل بفلذة كبده. جاء مصاحبا الفقيه رجل المواقف الصعبة وصاحب الأيادي البيضاء.
عاين الفقيه حالة الصغيرة. وضع يده اليمنى على جبهتها وتمتم بكلمات تكاد لا تسمع ثم حملق في وجه الأب وأمره بلهجة الموقن من اكتشافه لسبب العلة: "لقد أصابها مس من الجن وعليها بالمبيت ليلة في الضريح".
لم ينبس الأب بشيء غير إيماءته المعتادة بالرضى والقبول. فلا اعتراض على أوامر الفقيه ولا مخالفة لتعاليمه القويمة. صفدت الصغيرة و اقتيدت كقربان للضريح القابع في زاوية نائية للبلدة، كانت تلك أول مرة تبيت فيها بعيدا عن سريرها الدافئ المتواضع. في فناء خال إلا من أنفاسها المضطربة. جلست القرفصاء تهذي بكلام لا يردد صداه إلا حيطان الضريح الفارغ. بضع شمعات مشتعلة لا تكاد أنوارها الخافتة تضيء غير شمعدانها، أصوات كلاب تتبادل النباح وسط ظلام دامس وشخير حارس الضريح يكسر سكون المكان وقد استسلم مبكراً لنوم عميق بعد يوم متعب في خدمة الزوار والمريدين.
بعد منتصف الليل بقليل استفاق المسكين على جلبة وصوت يشبه الأنين، تملكه رعب.. تقفي أثر الصوت، فإذا بشبح رجل لم يتحقق من هويته يتخطى أسوار الضريح مطلقا ساقيه للريح. يتعثر ويقع ثم ينهض ليستأنف الجري من جديد، حتى التهمته الشعاب في سرعة برق. دلف الحارس نحو الفناء فوقعت عيناه على الصبية المكبلة مازالت تحاول لملمة قواها المنهارة وهي تدافع عن نفسها من همجية زائر الليل المباغت، وما كادت تلمح وجهه حتى اشتد صراخها وعلت استغاثتها طالبة النجدة: " أغيثوني... أغيثوني..." حاول بكل وسيلة تهدئتها ولم يستطع إلى أن بح صوتها وانهارت قواها.
مع بزوغ أولى تباشير الصباح كان الخبر قد انتشر في القرية كالنار في الهشيم، تلوكه ألسن الصغار والكبار. يتحدثون عن زَوج بَلْغةٍ وجد بالمكان، أثبتت التحريات التي باشرتها السلطات فيما بعد، أن صاحبها لم يكن إلا الفقيه المختفي منذ ذلك الوقت عن الأنظار وهو لم يكن في واقع الأمر إلا سجينا من ذوي السوابق، فر من العدالة قبل مدة وقد سجلت ضده عدة شكايات، وأدين غيابيا بتهم الاغتصاب وانتحال شخصيات.
|
|
|
[email protected]
التعليق يجب أن يناقش موضوع المادة
|
|
|