القرار الافريقي بين المكر الجزائري والتحدي المغربي
شهدت العلاقات الجزائرية المغربية في الآونة الأخيرة ، عملية شد وجذب و"ضرب من تحت الحزام" في ملف الصحراء المغربية، فما أن تحاول الأولى تسجيل نقطة في المعترك المغربي باعتمادها على المناورة وعتاد المكر السياسي الصدئ، حتى يصدها هذا الأخير بتكتيك سياسي حداثي أكثر ذكاء وأكثر فعالية ونفاذا وأكثر إقناعا، مما رفع من منسوب الضغط السياسي بين كلا الجانبين، وعطل كل أسباب التواصل والحوار بين الجارين المغاربيين، إلا من ردود أفعال من هنا وهناك تحاول أن تسكب الزيت في النار، أكثر مما تحاول بسط عناصر تحكيم المنطق والعقل والروية في علاقات هذين البلدين اللذان يفرض عليهما الواقع الجغرافي والديني والأخوي أن يجلسا على طاولة الحوار من أجل بسط كل القضايا العالقة بينهما دون استحضار أي عقد نفسية ولا استحضار أي ترسبات تاريخية، إلا ما يعضد آراءهما على الحق وصادق النية، ويدفع بهما إلى استشراف المستقبل وطي صفحة "الخلافات الواهية" بينهما من أجل رفعة همة وهامة ساكنة المغرب الكبير، وجعل المنطقة المغاربية بدولها الخمس، منطقة جذب للاستثمار وخلق الثروة ومستنبتا للتنمية المستدامة والديموقراطية الحقة.
وكان آخر هذه "الضربات من تحت الحزام" هو قرار تعيين مبعوث خاص إلى الصحراء المغربية من طرف الاتحاد الافريقي، الذي بقدر ما قد يبدو مفاجئا، خصوصا في هذا الظرف بالذات، حيث بدأ العد العكسي لايجاد حل سلمي وجذري لملف الصحراء المغربية، لينتهي مع متم العام المقبل حسب قرار المنتظم الدولي بالتوصل إلى حل نهائي لهذا النزاع المفتعل الذي عمر ما يزيد عن أربعة عقود خلت. إذن بقدر ما فاجأت جرأة ومكرهذا القرار العديد من الأوساط المهتمة بملف الصحراء المغربية، نظرا لعدم شرعية هذا القرار وإطاره القانوني، بقدر ما كان منتظرا هكذا قرار، ذلك أن رئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي، سبق لها أن طالبت مجلس الأمن الدولي اعتماد تقرير بان كِي مون في إشارة إلى مراقبة دائمة وغير منحازة لحقوق الإنسان في الصحراء وبمخيمات تندوف، هذا التقرير الأممِي الذِي تحمس له الاتحاد الإفريقي، كان قد أثار استياء كبيرا من لدن الرباط، ودفعَ الملك محمد السادس، إلى إجراء اتصالٍ مع بان كي مون وتذكيره بضرورة الإبقاء على معايير التفاوض، كما حددها مجلس الأمن، وحذره من أي انزلاق أو إجهاز على المسلسل الجاري، نظرا لما ينطوِي عليه من مخاطر على مستوى انخراط الأمم المتحدة في ملف الصحراء المغربية. وهو ما انتهى بالمنتظم الدولي آنذاك، إلى الانصياع إلى الحكمة برفضه لمضمون تقرير "بان كيمون" والإبقاء على الوضع في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية كما هو عليه الآن.
فالمغرب الذي عوده حكام الجزائر، ومنذ استقلالها إلى الآن ، وللإشارة، أغلبهم تربوا وتدربوا على الجهاد من أجل حرية وكرامة الجزائر بالجهة الشرقية للمغرب، وهو ما يعرف ب:"مجموعة وجدة" وفي مقدمتها الآن رئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبد العزيز بوتفليقة ، عوده حكام الجزائر، بهكذا قرارات تضرب في عمق الرابط الديني والأخوي واللغوي والجغرافي والتضامني ورابط الجهاد من أجل استقلال الجزائر ، لا ينتظر- أي المغرب- إلا ما هو أفظع من ذلك، ما دام قصر المرادية بالجزائر ليس في أجندته السياسية والدبلوماسية سوى انشغال أساسي واستراتيجي واحد ، وهو الاستمرار في إبداع وصناعة المكائد والمقالب ضد المغرب الذي تلقت منه الجزائر مؤخرا ضربات موجعة، بعد تفوقه في اختراقه لأدغال القارة السمراء على إثر الزيارة الرسمية والشعبية التي كان لها صدا طيبا ووقعا مؤثرا له دلالاته السياسية والاقتصادية والدينية والإنسانية، ليس في الأوساط الإفريقية فحسب، وإنما في الأوساط الدولية كذلك، التي اعتبرت المغرب بدا كمحطة أساسية وبوابة استراتيجية تجاه إفريقيا، خصوصا وأن هذه الزيارة، وكما تتبعها الجميع كانت زيارة عمل وتوقيع لرزنامة من الاتفاقيات والشراكات في شتى المجالات وكانت كذلك زيارة تتبع للعديد من المشاريع التنموية والمبادرات الملكية القيمة تجاه دول غرب إفريقيا والساحل والصحراء، مما دفع بالعديد من هذه الدول إلى أن تطلب تسويق التجربة المغربية وتفعيلها في القارة السمراء سواء على المستوى الديني أو الاقتصادي أو السياسي، وما رغبة كل من مالي وغينيا كوناكري ونيجيريا وليبيا وتونس في تكوين أئمة في المجال الديني من طرف المغرب إلا دليل أكيد على مدى أهمية الدبلوماسية الدينية التي انتهجها المغرب في دول غرب إفريقيا والساحل والصحراء، مما أزعج كل من موريتانيا والجزائر، التي تبدي تنافسا غير ذي جدوى في هذا المجال.
وكانت زيارة الملك محمد السادس إلى تونس بعد ثورة الياسمين، التي تمت خلالها توقيع العديد من اتفاقيات الشراكة بين البلدين، قد زادت من انزعاج الجارة الجزائر، التي استشعرت بمحاصرة المغرب لها في المنطقة المغاربية خصوصا ومنطقة غرب إفريقيا عموما، وكانت هذه الزيارة التاريخية إلى تونس بمثابة "ضربة معلم" أنكأت مرة أخرى "جرح العقدة النفسية " لحكام قصر المرادية تجاه المغرب الذين فشلوا في التشويش على هذه الزيارة الملكية التي كانت ناجحة بكل المقاييس، وامتدت مدتها أكثر مما كان متوقع، تجول خلالها الملك كعادته في كل زياراته إلى الخارج في شوارع تونس الثورة وأزقتها، مرسلا رسائل إلى الجارة الجزائر والعالم ، مفادها أن العلاقات الثنائية بين المغرب وتونس علاقات جيدة ومثينة، وهذه الأخيرة تعيش مناخا مهما من الأمن والاستقرار بعد ثورة الياسمين، وهي أكبر هدية من الملك محمد السادس إلى تونس حكومة وشعبا، كما عبر عن ذلك منصف المرزوقي رئيس الجمهورية التونسية، وكذا باقي الأوساط الإعلامية والشعبية التونسية.
كيف يحدث هذا كله، ولا تنزعج الجزائر من كل هذا الضغط السياسي القوي من طرف المغرب، وهي التي تضع ضمن أولوياتها متابعة تحركات المغرب إقليميا ودوليا، أشعرها هذا الزحف السياسي والدبلوماسي المغربي بأن البساط الافريقي الذي سخرت ميزانية ضخمة لشرائه إلى حد امتلاكه والتحكم في قرارات بعض قادة الدول الافريقية الذين انصاعوا إلى هذه المقايضة البئيسة، أي أموال النفط الجزائري مقابل اعتراف حكام هذه الدول التي غالبا ما يحكمها نظام عسكري ب: "جمهورية الوهم" بصحراء تندوف، هذا التفوق المغربي في الديبلوماسية الدينية والاقتصادية والسياسية في إفريقيا أشعر الجزائر بأن البساط الافريقي ابتدأ يسحب من تحتها شيئا فشيئا لصالح غريمها وجارها المغرب، بعدما فشلت في كل مناوراتها الدولية، بعدما علقت أملا كبيرا في تحقيق انتصار بيٍِِِن على المغرب من خلال افتعال قضية حقوق الانسان في الصحراء المغربية خلال السنتين الماضيتين ومحاولة إدخال ملف الصحراء المغربية دهاليز المنظمة الدولية لحقوق الانسان، لكن دون جدوى.
وفشلت الجزائر كذلك، بالأمس القريب، حين خرجت بخفي حنين من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، بعد تصويتها بأغلبية برلمانيي أوروبا على القرار رقم 2004 الذي يؤكد على أولوية الحل السياسي كإطار لتجاوز الخلاف في نزاع الصحراء المغربية .
كيف يحدث هذا كله، دون أن تفكر المخابرات الجزائرية في مقلب جديد وفي دسيسة خسيسة في محاولة فاشلة مرة أخرى، لاشك في ذلك، تُقَلِب بها المواجع على المغرب، وهو ما دبرته بتنسيق وضغط من طرف جنوب إفريقيا وبعض الدول الافريقية ، مستغلة رئاسة موريتانيا للإتحاد الافريقي التي استعملتها مطية لتمرير قرار المنتظم الافريقي الغير الشرعي واللا قانوني وفق منظور القانون الدولي، لكنها ألبسته لبوسا سياسيا ماكرا، قد يكون له مابعده في الاسهام في التشويش على مسار ملف الصحراء المغربية في المستقبل المنظور، والسعي بكل الوسائل إلى تعطيل إيجاد حل سلمي دائم لنزاع هو أصلا مفتعل منذ اختلاقه في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تتجاذبه تشابك وتعدد المصالح الاقليمية والدولية، والخاسر الأكبر طبعا، هو الشعوب المغاربية، خصوصا الشعبين الجزائري و المغربي .
إذن ، استغلت الجزائر رئاسة الجارة موريتانيا، لهذا المنتظم الافريقي والجفاء السياسي بين هذه الأخيرة والمغرب وضعفها في التحكم في استصدار هكذا قرارات ، كما استثمرت حاجة الثمانية عشرة دولة الأخيرة التي كانت الجزائر قد شطبت لها عن ديونها المستحقة للشعب الجزائري بجرة قلم، دون أي استشارة من طرف هذا الأخير. لأن حكام قصر المرادية يعتبرون المساس أو حتى مناقشة قرارات الدولة فيما يتعلق بسخائها المادي السريالي على جبهة البوليساريو وكل الدول والمنظمات غير الحكومية التي دعمتها بسخاء مادي كبير، فقط للدفاع عن جبهة البوليساريو في المحافل الدولية، وترويج صورتها المشوهة أصلا، هو مساس بهيبة الدولة وبقراراتها المصونة عن كل عيب أو انحراف.ولم يتسن لأي كان باستثناء المخابرات العسكرية الجزائرية والمحيط المقرب جدا من قصر المرادية معرفة فاتورة شراء الذمم الإفريقية غير المبرر من أجل الابقاء على "كركوزتها" الوهمية، والتمادي في تعذيب المغاربة الصحراويين بمخيمات تندوف من قبل طغمة البوليساريو التي تعاني على مدى الشهور الأخيرة من تصدع داخلي ومواجهات عنيفة بين الرافضين للوضع الحالي والآلة العسكرية للدرك الجزائري وميليشيات البوليساريو التي تحاول بغباء كبير قمع هذه التظاهرات التي أصبحت علنية تشارك فيها المرأة الصحراوية إلى جانب الرجل مطالبين بالحرية والكرامة ومعانقة أهليهم في الأقاليم الصحراوية الجنوبية، هذه الطغمة المتحكمة في رقاب إخواننا المغاربة الصحراويين في خرق سافر لأبسط حقوق الإنسان، لا تزال تتلكأ في أفكارها الصدئة والبئيسة، خصوصا بعد المبادرة المغربية الجادة المتعلقة بمقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية التي لقيت ترحابا دوليا بحكم واقعيتها ومصداقيتها وفاعليتها في منطقة شمال إفريقيا برمتها وفي مقدمتها سكان الأقاليم الجنوبية.
إذن ماذا على المغرب أن يفعل الآن، وقد صدر قرار تعيين مبعوث خاص من الاتحاد الافريقي إلى الصحراء المغربية، و بدأ نشاطه الدبلوماسي ببرنامج مكثف من خلال لقاءاته المبرمجة مع الدول الدائمة في مجلس الأمن، وبعض الدول الغربية ذات الارتباط بملف الصحراء المغربية.
يبدوا لي أن هذا الواقع يدفع بالمغرب أكثر من أي وقت مضى إلى تغيير استراتيجيته السياسية والدبلوماسية للإنفتاح أكثر على قوى إقليمية ودولية تعزز من قيمة طرح مقترح الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية وتدافع عنه داخل المنتظم الدولي، لأن هيئة الأمم المتحدة هي "الطنجرة" الضخمة التي تطبخ فيها القرارات ومصائر الشعوب والدول، وكل بثمنه ، ولا تعترف إلا بالصوت القوي المجلجل، وهذا ما يفرض على المغرب الانفتاح أكثر على روسيا والصين، بلغة المصالح المشتركة والمتبادلة، مع تطوير وتحديث العلاقات الاستراتيجية مع الدول الحليفة التقليدية للمغرب في المعسكر الغربي، بناء على معادلة رابح رابح. كما على المغرب اختراق الدول الافريقية وعلى قلتها التي ما تزال تعترف بجبهة البوليساريو، وفي مقدمتها جمهورية جنوب إفريقيا ، الدولة الأكثر تأثيرا في القارة السمراء، وتفعيل حلحلة علاقات المغرب مع هذه الدول، والحرص على تواجده بقوة وفعالية في الساحة الإفريقية من خلال الضغط على أصدقائه الأفارقة في غرب القارة السمراء، مثل السينغال ومالي وغيرهم والأفارقة العرب وفي مقدمتهم جمهورية مصر والسودان وتونس، لتفعيل عودة المغرب إلى الاتحاد الافريقي ، وتصحيح خطيئة هذا الأخير القانونية التي ارتكبها في منتصف الثمانينات بضمه لجبهة البوليساريو إلى عضويته ، وهي الجبهة التي لا تتوفر فيها شروط الدولة التي يفرضها ميثاق المنظمة الافريقية في الانتساب إلى عضويته.
وعلى المستوى الداخلي، ضرورة التسريع بتنفيذ مشاريع المخطط التنموي الذي أنجزه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مؤخرا ، والخاص بأقاليمنا الجنوبية والذي من المنتظر أن تحول هذه المشاريع الأقاليم الصحراوية إلى ورش تنموي كبير سيحول المنطقة إلى جذب للإستثمارات في مختلف المجالات التنموية، تكمل ما بدأه المغرب منذ حوالي أربعة عقود، بعد استرجاع الصحراء المغربية بالمسيرة الخضراء ، كما أن إخراج مشروع الجهوية المتقدمة إلى حيز الوجود، أضحى شرطا مهما من أجل تقدم وازدهار جهات المملكة المغربية وفي مقدمتها الأقاليم الجنوبية ، مما سيعزز الصرح التنموي والديموقراطي والمؤسساتي بالأقاليم المغربية الصحراوية وبباقي ربوع المغرب. وهذا في نظري سيكون الضربة القاسمة والقوية والمقنعة لكل الأطراف المتجاذبة حول هذا النزاع المفتعل في الصحراء المغربية، وكذا إقناع المنتظم الدولي بمقترح المغرب بإنشاء حكم ذاتي ، يضمن الحرية والكرامة لساكنة الأقاليم الجنوبية في ظل الوحدة الترابية للمملكة المغربية والحسم النهائي فيه من خلال ترتيب الاستعدادات لاستقبال إخواننا المحتجزين بتندوف في أرضهم وبين ذويهم في أقاليمنا الجنوبية.
بقلم/ عبد السلام العزوزي