الإعلام السمعي-البصري نقطة ضعف كبرى بالمغرب. هذا ما لا تختلف بشأنه النخب ورجل الشارع.
تأخره بيّن ويكاد يفقأ العين. وحالته لا تعكس حقيقة البلاد ولا طموحها الداخلي والدولي في الوقت الراهن.
هذا التقييم لا يختلف عليه أيضا القيمون عليه ومسؤولو الدولة الذين صار يحرجهم دورانه في دائرة مفرغة وهيمنة طابع محافظ عليه يجره إلى تقاليد ترسخت في زمن الإعلام والداخلية ويجعله منقطعا عن المغرب كما تطور منذ أكثر من عقد من الزمن.
هذا التأخر يدفع المواطنين إلى هجرة جماعية نحو قنوات أجنبية يوفرها البرابول والاشتراك في باقات متاحة والانترنيت، حيث بات التطور التكنولوجي يوفر حلولا متعددة ومتنوعة لعدد متزايد من المواطنين، وهي حلول تنطوي في نفس الوقت على خطورة اغتراب المواطنين على واقعهم بمكوناته المختلفة وخضوعهم لتأثيرات سيئة تشكل تهديدا للاستقرار، بل وللعيش المشترك، من قبيل تأثير الجزيرة التي تخدم أجندة خطيرة على سبيل المثال لا الحصر.
وفي انتظار الانفتاح الشامل للفضاء السمعي-البصري المغربي، الذي تأخر كثيرا بسبب ضيق سوق الإشهار على الخصوص، فقد بدأت عدد من المبادرات بالظهور لغسل وجه وسائل الإعلام السمعية-البصرية القائمة وتكييفها مع واقع البلاد الذي يتطور انفتاحا وتحديثا ويقاوم زحف الظلام وتهديدات الظلاميين ويعمل على تقديم نموذج في محيط مضطرب ومفتوح على كل الاحتمالات.
في هذا الإطار جاءت المبادرات التي تتجه إلى إحداث تغيير عميق في ميدي 1 تي في، التي لم يعد رأسمالها ملكا للدولة، وإكسابها هوية مميزة ودور خاص في القضاء السمعي-البصري الوطني والمغاربي، وفي الأفق الإفريقي، كقناة ذات طابع إخباري وحواري، مطابقة في تصورها لمغرب اليوم بطموحه وليس لمغرب الأمس الذي شكلت هيئة الإنصاف والمصالحة خطوة كبيرة لتجاوز تركته السلبية على أساس استعمال مكاسبه الإيجابية، وفي مقدمتها تعدديته الراسخة مند الاستقلال وسعيه لتوسيع فضاء الحريات واحترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها كونيا وفقا لإرادية عكسها تخصيص 80 مادة من 180 مادة في دستور 2011 للحقوق والحريات.
وقد صارت "ميدي 1 تي في" تطرح على القنوات التلفزية الوطنية الأخرى تحديا خاصا، بتنويع عرضها في المجال الإخباري والحواري الذي اختارته وباستقطابها لجمهور متزايد يهرب من الرداءة التي تميز النشرات والبرامج الحوارية في القنوات الأخرى، بما فيها برامج كانت تحظى بنسبة مشاهدة محترمة إلى زمن قريب، وتبين التغييرات التي أدخلها المدير العام الجديد في هيكلة الأخبار أن الطموح لا يقف عند هذا الحد، حيث ترغب القناة، المزدوجة اللغة، فيما يبدو في الوصول إلى المشاهد المغربي والعربي والإفريقي وإيصال صورة المغرب إليه بطرق تقطع مع الجمود والتكرار ولغة الخشب، وهو طموح مشروع في بلد كان من المفروض أن يكون سباقا في ميدان الإعلام السمعي-البصري عربيا وإفريقيا بالنظر إلى سبقه في ميدان التعددية والحريات والإصلاح السياسي، وكان تردده في شراء بي بي سي بالعربية قد فتح أمام قطر إطلاق الجزيرة، التي حولها الإخوان المسلمون إلى وسيلة للتحريض على القتل وتخريب الحضارة.
ويبدو اليوم أن الرئيس المدير العام للقطب العمومي فيصل العرائشي وعى بحجم هذا التحدي، خصوصا فيما يتعلق بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة (دار البريهي) التي صارت قنواتها مضرب الأمثال في الجمود والتأخر والفساد، رغم كلفتها الباهظة جدا مقارنة مع باقي الشركات العاملة في الميدان. إذ تبلغ كلفتها السنوية 170 مليار درهم، وهو رقم ضخم بكل المقاييس، تذهب هباء منثورا. ويذهب ثلث هذا الرقم، أي حوالي 60 مليار لأجور لا يوجد مثيل لها إلا في بعض المؤسسات المالية الكبرى، حيث يحصل 38 مديرا، من بينهم مدراء تم التخلي عن خدماتهم منذ مدة، وعلى رأسهم المدير السابق للشؤون الإدارية والمالية، أكثر من 5 ملايين سنتيم شهريا، بالإضافة إلى تعويضات وبريمات وامتيازات أخرى...
ويبتلع الإنتاج حوالي 65 مليار سنتيم، يذهب جزء منها لشركات تحوز الصفقات بشكل يثير الكثير من الأسئلة، ومنها شركات تستعمل وسائل الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ورصيدها من الوثائق مجانا لإنتاج ما كان يمكن للشركة أن تنتجه داخليا بكلفة تساوي ربع الصفقة في أحسن الأحوال، بل إن شركة تجرأت على سرقة حلقة من حلقات البرنامج الذي تعده من أرشيف المؤسسة، وكان ضحية السرقة هو الزميل السراج الضو المحال على التقاعد والذي لم تبث حلقات متعددة من برنامج الشاهد الذي أعده ليفسح المجال للصفقات.
هذا غيض من فيض. فهل ينتفض فيصل العرايشي ضده قبل الالتحاق بالمقر الجديد، قيد التشييد، للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ويعتمد نظاما عقلانيا للشركة بعدد معقول من المسؤولين من ذوي الكفاءة والقدرة على الإبداع وتطوير الأداء ويحرر هذا الأداء نفسه من التزمت الذي يجعله منشدا إلى الماضي ومنقطعا عن مغرب اليوم وعالم اليوم الذي لا يختزل في تطور التقنيات الرقمية، على أهميتها. وهل تساعده المجموعة التي كلفها بالتتبع والتقييم في تكييف أدوات الذكاء الاقتصادي مع خصوصية الإعلام السمعي-البصري وتنظيف الدار مما بقي عالقا بها من الماضي وفتحها على هواء نقي وتجنيبها لعب "المخلوضين" الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف.