قليلون هم أولئك الذين يتوقفون، اليوم، لقراءة تلك الجمل، التي يتضمنها نصب تذكاري بإحدى جنبات الساحة، حيث نقرأ في لوحة كتبت بثلاث لغات (العربية والفرنسية والإنجليزية) «أعلنت منظمة اليونيسكو الفضاء الثقافي لساحة جامع الفنا تحفة من التراث الشفوي واللامادي للإنسانية. تقع ساحة جامع الفنا في قلب المدينة القديمة وتعد ملتقى ثقافيا وفنيا يجتمع فيه فضلا عن سكان الحاضرة، الرواة والموسيقيون والراقصون ومروضو الأفاعي والشفاة والعرافون. وتعد كذلك فضاء للتبادل التجاري وفضاء ترفيهيا، كما تعد نموذجا لتخطيط حضري يعطي الأولوية للسكان والتعابير الثقافية واللقاءات والمبادلات. تجسد هذه اللوحة الاعتراف العالمي بالغنى المتميز لهذه الساحة وبالرمز الذي أصبحت تمثله».
ومع التحولات التي أصابت «جامع الفنا»، صار بعض الكتاب العالميين، ممن هاموا بالساحة ودافعوا عنها حتى صنفت تراثا شفويا عالميا، يكتفون بالجلوس بالمقاهي المحيطة بالساحة، يشربون كؤوس الشاي المنعنع، ويتمعنون في شريط التحولات التي تعرفها الساحة الشهيرة أمامهم.
ورغم هذا التحول الدراماتيكي الذي تعيش على وقعه أشهر ساحات المغرب، فنادرا ما يحل السائح بمراكش دون أن يزور جامع الفنا، حيث يضرب الجميع موعدا، على مدى ساعات النهار وحتى ساعات متأخرة من الليل، للفرجة وشرب عصير البرتقال والأكل. لا فرق بين سائح وآخر، في هذه الساحة الشهيرة التي تقبل الجميع، حيث يجد الزائر نفسه مجبرا على قبول دعوات مفتوحة للفرجة والأكل والشرب والتسوق.
تقترح مطاعم ساحة جامع الفنا مأكولاتها بعد العصر، حتى وقت متأخر من الليل. ليس لقائمة الطعام سقف محدد، يضبط طبيعة الوجبات، حيث تتحول الساحة، كل يوم، إلى مطبخ «سريالي»، يجمع دخان المشويات بضجيج الباعة وآلات الموسيقيين، بينما يقترح أرباب المطاعم على الزوار مأكولات ومشروبات، معظمها مألوف، في حين يثير بعضها الآخر دهشة من يزور الساحة لأول مرة، خاصة السياح الغربيين، الذين يثيرهم منظر الكوارع ورؤوس الخراف المبخرة، وهي مرصوصة على بعض طاولات الأكل، كما لو أنها منحوتات حيوانية، كتب عليها أن تدفئ البطن لا أن تمتع الأعين.
توفر ساحة جامع الفنا للزوار «الأكل العشوائي»، على رأي الشاعر سعد سرحان، حيث يمكن لمعدة الزائر أن تمتلئ عن آخرها بثمن يتراوح بين عشرة وخمسين درهما (ما بين دولار ونصف وستة دولارات). الأكلات متنوعة، وأرباب المطاعم يستعملون كل الوسائل لتحريك جيب السائح وإغراء معدته، ابتداء من ترتيب المأكولات، وانتهاء بدعوته، بابتسامة تم التعود على رسمها بتلقائية وروح دعابة تحبب الأكل، في حين تقترح لائحة الطعام والأسعار، مع أن الدعوات قد تكون محرجة، أحيانا.
وكما أن زوار جامع الفنا أشكال وأنواع وطبقات، فكذلك المأكولات التي تقترحها المطاعم، أصناف وأشكال، فهناك الوجبات الخفيفة، التي تؤجل الجوع إلى حين عودة المعني بالأمر إلى المنزل أو الفندق، من قبيل البيض المسلوق وشوربة الحريرة (مع التمر والشباكية)، وهناك العصائر والمشروبات، مثل عصير البرتقال والشاي المنعنع وبعض «الأكلات» الاستثنائية، مثل (خودنجال) و(الحلزون). كما أن هناك وجبات كاملة تشمل السلطات ورؤوس الخراف المبخرة والكوارع والمشويات، التي تشمل اللحوم الحمراء والبيضاء، فضلا عن الأسماك والكسكس والطنجية والطجين والبسطيلة والنقانق. وعلى سبيل الختم، يمكن للزائر أن يصادف عربات متنقلة تقترح حلويات مغربية تقليدية.
تبدو الأسعار التي تقترحها المطاعم الشعبية، في متناول جميع زوار الساحة. كل مطعم يحمل رقما ويرفع لوحة أسعار وجباته، تبرز اسم الأكلة وثمنها. بعض الأكلات والأسعار تثير التفكه بين «قراء» قوائم الأكل، كأن نقرأ مثلا أن «المخ» بعشرة دراهم (دولار ونصف) و«الرأس الصغير» بثلاثين درهما (ثلاثة دولارات ونصف) و«الرأس الكبير» بأربعين درهما (خمسة دولارات). يبدو بعض السياح أقل ثقة على الرغم من الأسعار المعلنة. هم يعرفون أن بعض الجشعين، لا يتورعون، عند الأداء، عن إضافة صفر كامل إلى يمين سعر الوجبة المكتوبة في لائحة الأسعار. لذلك، صار السياح، في مراكش، أكثر انتباها، حيث يحرصون على تأدية ثمن ما تناولوه وفق أرقام اللوائح وليس وفق أهواء صاحب المطعم الجشع.
ويمكن القول إن تشدد السلطات المحلية في نظافة ساحة جامع الفنا وجودة وسلامة ما يعرض من مأكولات، فضلا عن أسعارها الملائمة لكل الجيوب، هي أكبر الأسباب التي تدفع الرواد إلى الثقة والإقبال على ما يعرض من مأكولات. وجرت العادة أن تنظم السلطات المحلية حملات مباغتة تشرف عليها لجان تضم بينها متخصصين في التغذية العامة.
لا تضم ساحة جامع الفنا «مطاعم» بالمعنى المتعارف عليه، بل «جلسات» يبلغ عددها نحو 60 «جلسة»، متنوعة في معروضاتها، التي تشمل كل أصناف الأكلات والمشروبات، تقريبا، بداية من الشاي المنعنع، وصولا إلى أكلات النقانق والكوارع ورؤوس الخراف المبخرة.
ومن بين أشهر «جلسات» الأكل، التي تقترحها ساحة جامع الفنا، هناك «باولو». وسبق لسعد سرحان أن كتب نصا جميلا، ذهب فيه إلى حد القول «إن (باولو) بات أحد أشهر معالم مراكش»، مشيرا إلى أن الفضل في هذه الشهرة، «لا يعود إلى لذته الغريبة، فقط، وإنما، أيضا، إلى رصيده الكبير من الالتباس، فهو اسم الأكلة وصاحبها، والمكان الذي تقدم فيه. أما ثمن الوجبة الزهيد، فهو عبارة عن خليط من علامتي الاستفهام والتعجب، لا تفسير لهما سوى التناسب العكسي الذي بين اللذة وسعرها».
ويستعيد سرحان بدايات المطعم، فيقول إن «باولو» كان نصا غذائيا بلا عنوان، وإن زبائن فرنسيين طلبوا منه أن يناولهم ماء، ولأنه لم يفهم مرادهم، فقد تطوع أحد المراكشيين لمساعدته: «باو لو» (في الدارجة المغربية يقال «بْغيت» والجمع «بـغاو» أي «أرادوا» بالفصحى، ويختصر المراكشيون الكلمة في «باو»)، مازجا بين لغة مراكش واللغة الفرنسية إرضاء للطرفين. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، أصبح « بَاوْ »، أي «أرادوا الماء»، هو «باولو» الأكلة وصاحبها.
مراكش: عبد الكبير الميناوي