إعادة نظر .. ابتلاء الإنسان
إن ابتلاء الإنسان، هو في تكليف روحه بتدبير بدنه؛ لأن الروح علوية المنزع، والبدن سفليّه. والغاية المطلوبة بين الجذبين، هي الارتقاء من دون إضرار بالمزاج (البدن والعقل). فالبدن آلة خادمة للروح، ينال بها الروح الأذواق الحسية التي لم تكن له إبان تجرده. وهذه الأذواق الحسية، هي أصل التنعيم والتعذيب الذي يحصل للإنسان في الآخرة.
وحتى يحصّل العبد من بدنه المراد، فعليه أن يحفظ عليه حياته، وأن يمده بالغذاء المناسب في حد لا يُجاوز الضروري منه؛ مع تقوية الروح بالأعمال الشرعية التي يتنور بها البدن شيئا فشيئا، إن كان على الطريقة النبوية السليمة. ومن هنا يظهر أن الخلل الذي يصيب الإنسان، يكون إما بالإخلال بالتوازن المادي للبدن، بتفريط أو بإفراط؛ وإما بالتقصير في تقوية الروح عند حرمانها حظها من النور الشرعي؛ وإما بهما معا.
فمن كان سُفليا من الناس، فإنه يصير خادما لبدنه، منهمكا في شهواته من غير ميزان. وهذا الخادم، قد انعكس أمره، وصار سيره إلى أسفل؛ إن استمر على حاله، لا يكون قراره إلا في النار (وهي غاية السفل). وفي مثل هذا الصنف قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]. والمشي السوي، هو ما ذكرنا من استعمال البدن، في تحصيل الترقي. والترقي (التروحن)، هو الذي يخرج بالإنسان من حيوانيته إلى آدميته؛ بل إن البدن إذا تنور، لحق بالروح في الصفات، حتى يصير في الحكم كأن لا ثقل له. ومن هنا يمكن القول بأن عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بالروح والجسم جميعا، لا بالروح وحدها.
إن غلبة أحد التوجّهين على الإنسان، يكون عنه تحديد مساره الأبدي من غير شك. فمن غلب عليه التسافل، كانت وجهته الدنيا؛ ومن غلب عليه التعالي، كانت وجهته الله. والدنيا سميت كذلك، لدنوها من الإدراك الحسي ولدناءتها. وقد ذم الله الدنيا في مواضع كثيرة من القرآن، وجعل إيثارها على الآخرة علامة على الخذلان؛ فقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 107]. وهذا يعني أن التوجه إلى الدنيا على التمام، لا يكون إلا مع الكفر. وقد غلط أقوام، عندما ظنوا أن إتيان بعض الأعمال الدينية ينفع مع التوجه بالقلب إلى الدنيا. وذلك لجهلهم بضرورة الزهد في الدنيا، حتى يسلم توجه العبد إلى الله. وهذا، غير ملك المال أو عدمه، كما هو معلوم. ونحن نرى أن ضعف الأمة اليوم، هو من توجه جل أبنائها بقلوبهم إلى الدنيا. وفي مقدمة المتوجهين، الفقهاء العاملون لها بالدين.
وبالعكس من ذلك، فإن التوجه إلى الله، لا يصح إلا باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أول الراجعين إلى الله وأعلاهم مكانة. يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. واتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكون في صورة الأعمال فحسب، وإنما ينبغي أن يكون في الحال أيضا. وهو صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن تناوله للدنيا إلا ضرورة. فمن أراد أن يلحق به من تابعيه، فليكن على مثل ما كان عليه هو، صلى الله عليه وآله وسلم؛ أو ليقارب ذلك قدر المستطاع، فإنه عزيز.
أما لمَ كان التوجه إلى الله شرطا في التوجه إلى الآخرة، فلأن الآخرة لا يُتوجه إليها لذاتها من جهة؛ ولأن العمل للآخرة بالقصد الأول، يكون عملا للنفس لا لله. ومن يكن على هذه الحال، فإنه لا يختلف عن أهل الدنيا، إلا بتأخير نيل شهواته، حين استعجلوا هم. والأمر ليس هنا بالتقديم والتأخير، أو باختلاف الوسائل؛ وإنما هو بقصد الله، أو بقصد سواه.
وأما الذكر الكثير المشترط في اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه جاء حتى لا يصير التدين عند أهله أمرا طقوسيا، تؤدى مراسيمه، ثم يُنتقل بعدها إلى الانغماس في الدنيا. وهذا يعني أن العبد منا، عليه أن يبقى قلبه متعلقا بالله في كل أوقاته، من ليل أو نهار. وقد اتخذ أهل الطريق الذكر بكلمة التوحيد أو بالاسم الجامع خارج أوقات العبادات المعلومة، طريقا إلى التحقق بالذكر الكثير. أما الغفلة التي نراها لكثير من المسلمين في أوقات فراغهم، فإنها لا تُمكّنهم من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبدا. وسيبقون في أسفل سافلين، وإن كانوا مؤمنين. وهؤلاء إن دخلوا الجنة، فإن شغلهم فيها، سيكون ما تشتهي أنفسهم فحسب. وشتان بين هؤلاء، ومن يكون جليس الحق وشهيده.
إن مصير الإنسان الأبدي، لا ينبغي أن يُنظر إليه باستخفاف، أو أن يُكتفى فيه بتقليد المجتمع؛ ولكنه أمر خطير، على العبد أن يحدد فيه غايته وطريقه بدقة!..
اشيخ عبد الغني العمري