بين السياسة و النضال...
لماذا نعزف عن ممارسة السياسة؟ و هل فعلا ممارسة السياسة تكلفنا كثيرا؟ هل هي خطيرة و مدمرة لحياة الفرد؟ لماذا نخاف منها و نتوجس من كل فرد يمارسها؟
هناك من سيقول أن المناخ السياسي فاسد و ملوث و لهذا يستحسن الابتعاد عنه و تجنبه. و لكن هل السياسة و حدها فاسدة و ملوثة؟ أليست ظاهرة الارتشاء و الفساد متفشية في الإدارات العمومية و مع ذلك الأطر و الدكاترة يتحملون الويلات ليحظون بمنصب فيها؟ أليس صحيحا أن معظم القطاعات من تعليم و صحة و تعمير و فن و الخ بها الصالح و الطالح و لكن هذا لا يشكل عائقا للانخراط في هذه القطاعات و البحث عن موقع فيها. أليس صحيحا أن الفساد نفسه كلمة مبهمة تتحمل تأويلات عدة؟
هناك من سيقول أن السياسة بلا أخلاق. و لكن هل فعلا السياسة بلا أخلاق؟ إن من سيتأمل لعبة الملاكمة و هو غير عارف بقواعدها قد تبدو له لعبة بلا أخلاٌق، فما معنى أن يلكم شخصين بعضهما إلى أن تنتفخ و جنتاهما و يسقط أحدهما أرضا؟
هناك من سيقول أن التاريخ يظهر دائما أن المناضلين الذين تشبثوا بمبادئهم كانوا دائما ضحايا في نهاية المطاف و انتهى أمرهم إما بالسجن أو الموت أو بالإهمال و النسيان و الفقر. و ربما هو ما عبر عنه شي غيفارا بقوله :الثورة يصنعها الحالمون ويقوم بها المجانين ويقطف ثمارها الانتهازيون. و كثير من المناضلين في أحزاب عدة ستجدهم يشتكون لأنهم ضحوا بوقتهم و بحياتهم من أجل الحزب و لكن لم يحصدوا إلا الأشواك فلا أحلامهم بمجتمع عادل تحققت و لا وضعيتهم كأفراد تحسنت. و هذا الواقع الذي يشهد عليه التاريخ يجعل الناس يهربون من السياسة و يبتعدون عنها لأنها ترمز للألم و الخيانة و سلسلة من الإحباطات المتكررة.
و لكن ربما لو حاولنا أن نفهم عمق الأشياء فسنغير بعضا من مفاهيمنا حول النضال و السياسة.
و من هنا لا بد أن نطرح سؤالا جوهريا: هل كل مناضل هو سياسي؟ و هل كل سياسي هو مناضل؟ و هل المجتمع يحتاج أكثر إلى السياسيين أم إلى المناضلين؟
أعتقد أن المناضل يضحي دائما، فلا يهمه أن يخسر هو في سبيل أن يربح الآخرون، أما السياسي ففي الغالب علاقاته تكون مبنية على الربح المتبادل و لهذا ففي الغالب يكون مفاوضا بارعا.
المناضل عادة ما ينطلق من ذاته و لهذا تجده انفعاليا و ثوريا و يؤمن بالحقيقة الواحدة فيظل متشبتا بها و لو كلفته حياته.
أما السياسي فيتمرن باستمرار ليبتعد عن الذاتية و الأنا في حكمه على الأحداث و الوقائع فتجده يتدرب باستمرار على ضبط الذات و التحكم فيها و السيطرة على كل المشاعر السلبية التي يمكن أن تجتاحه و تضعفه كالخوف و الرغبة. السياسي يؤمن بالمقولة المغربية " الراس للي مكدورش كدية"، فشخصيته لينة كعظام لاعب الجمباز و ثاقبة كعيون ملاكم يحسن توقيت و مكان تسديد اللكمات كما أنه يجيد فن الانحناء تحت الأمواج متى كانت عاتية بدل تحديها و محاولة الركوب فوقها. و لهذا السياسي يسيطر على المناضل و يجيد ترويضه و استخدام انفعالاته و ثوريته لما يخدم توجهاته و مصالحه.
بيد أن السياسي متى اجتمعت فيه صفات المناضل فإنه يكون قادرا على التغيير الإيجابي و الصمود في وجه القوى المحافظة في المجتمع.
و لهذا يبدو لي أن المجال السياسي في حياتنا يشبه المجال الفني و الرياضي. فلا أحد يمكنه أن ينكر أهمية الفن و الرياضة في حياتنا و كيف أن اهتمامنا بالفنون السبعة سيصقل روحنا و ينمي إحساسنا و كيف أن ممارستنا للرياضة سيقوي بنيتنا و يمنح المناعة لجسمنا. و لكن من الغباء أيضا أن نعتقد أن اهتمامنا بالفن كفيل بأن يجعلنا فنانين مقتدرين و أن اهتمامنا بالرياضة كفيل أن يجعلنا أبطالا محترفين.
فمشاركتنا في الحياة السياسية و انخراطنا في الأحزاب لا يمكن أن يصنع منا صقورا في السياسة، فشخصيا أومن أن السياسيين المحنكين تكون لهم مواهب خاصة و فطرية.
و من هذا المنطلق، أعتقد أن السياسي إنسان مظلوم عبر التاريخ. إذ لا نجد حرجا مثلا في أن نتقبل أخلاقيا أن يباع لاعب كرة قدم يدحرج كرة في ملعب صوري بمئات الملايين من الدولارات، و في نفس الوقت نقذف السياسي بتهم الارتزاق و الكسب الغير المشروع و إن لم يصل إلى ثراء لاعب كرة القدم و هو القادر على خلق التوازنات و على كتابة التاريخ و هو الذي يتعرض لضغوطات رهيبة و يخاطر بحياته و يقبل أن يلعب في ملعب حقيقي يشبه حقل ألغام.
و لكن لا أحد يمكنه أن ينكر أن السياسيين اليوم لم تعد لهم القدرة على التأثير في المجتمع، الفنان نفسه فقد هذا السحر و فقد أدواره الطلائعية التي لعبها في عصر الأنوار و في بداية عشرينات القرن الماضي.
و قد يكون السبب أن الفن و السياسة في عصرنا الحالي غلب عليهم الطابع التجاري، و هكذا تحول الفنان و السياسي إلى دمى تحركها شركات الإنتاج أصحاب النفوذ من رجالات الاقتصاد.
فالفنان و السياسي في وقتنا هذا لا تنقصهم الموهبة و لا تنقصهم التقنية و لا الشهرة و لا حتى الحنكة و إنما هي الروح التي...
أمل مسعود