مطاردة...
في فضاء مغلق بإحكام ،لا يستأنس بخيوط الشمس الذهبية الدافئة ، لاينفذ اليه نور القمر الهادئ الساحر، المستمر طوال ليالي بعد نحر أضحية العيد، على إيقاع ضحكات وصيحات الأطفال وهم يمرحون، إذ حظوا باللباس الجديد، المكان قاتم لايصل اليه صدى الموج المتلاطم المنكسر على ظهر الصخر العتيد . ليلا يضيئه مصباح يرسل ضوءا باهتا . ذبابة تائهة تحط على سطحه ، تحوم حوله ويتراءى ظلها كبيرا على الجدار، و كأنها تتحقق من حسابها المعتاد لبصمات من زج بهم في هذا القفص البعيد من كل صخب الدنيا . قضبان من فولاذ، كالتي تحبس الو حوش الضارية، تضفي على الاسمنت، ذي اللون الداكن بأسا وشدة.لا دفء ولا قمر،لاحفيف ولا هدير ، لاحر ولازمهرير ، الصيرورة الضامنة للتوالي والتنوع، كانت فصارت ثم لم تصر ، دورات الفلك تضاعفت وزاغت عن المدار . الشكل الكروي تقلص واندثر ،السماء التي يسبح فيها الكون برمته في قبضة الحكيم القدير، والفاصلة بين الحق والزائف ، فراغ لايحتوي على نجم يلمع ومذنب يحتك بالغلاف الجوي ، يخترقه وهو يسطع .
المكان بداخله رقع صغيرة ، لا تتسع لشخص واحد ، تشبه قبرا ، ارتوى ماء أثناء الدفن ، وسرعان ما تغيرت معالمه و تجمد ترابه وتصلب ، يضغط بثقله على البدن . يتآكل فيه اللحم الآدمي ، رويدا، رويدا . تزول الملامح، تنمحي علامة إنسان، تنقضي صورة انسان، كم ضحك احتيالا، وكم تبرم لأن الصفقة ذهبت أسفا حيث غنم الأسد حصة الأسد بجرة قلم. كثر ما طغى وأشبع نزوات الهوى...تدركه المنون وينقضي، ثقب فارغة، أطراف وأقدام جامدة، عظام نخرة تقبع هناك إلى حين، الفضاء محطة تبقى خلالها وبعدها الذكرى أسيرة الوجدان، ذكرى أليمة تغلي وتتفجر كالبركان الغاضب ، تقفز على الحاضر ، إنها اللحظة التي جرفت بنبيل، ثوان معدودات غيرت مجرى مصيره . هنيهة تستحق أكثر من وقفة، خيوط متداخلة أفرزت وتفرز..العنكبوت، حالة نبيل هذه ، مثيلاتها موجودة وكثيرة ، أمه حليمة ، أنجبته وهي في أعز وأجمل فترات شبابها ، كسائر النساء البدويات، لا يعرف إليها الهوان سبيلا.. صبورة،قنوعة، قانتة، تصبو إلى أمال عريضة. أحبت ابنها حبا جما. لا تتردد في تلبية رغباته ليثلج صدرها وقد حصل يوما على مرتبة عالية، وهكذا تتعاقب الأعوام و يزدان فراشها بمواليد آخرين، يوهنها الإنجاب، تتعدد طلبات الأبناء، تضطرب نفسيتها، تلوح في الأفق غيوم كثيفة، الأب قدور تقاعد و بقي دون عمل ما يمكنه من سد حاجيات الأسرة، يكن لأبنائه حبا يخفيه وتصير معاملته لهم قاسية، قلما يحاورهم، وتتوالى الأيام و نبيل تقوى بنيته ، من مستوى ينتقل رغم أنه دون المتوسط، ها هو قاب قوسين أو أدنى من نيل الشهادة الأولى، لكنه ينطوي على ذاته، يستغرق ساعات في أحلامه ، بعد صلاة العشاء، يخلو له الجو ويستلقي على ظهره ، شارد الذهن ، أمامه على الحائط صورة تمثل سيدنا سليمان وجنوده، إنها تأخذ وقته ، تسيطر على لبه ،تغوص في مكامن مخيلته . يتأمل القوم بخناجرهم وأذنابهم ولحاهم، يضفي عليهم الكثير من خياله، تتحرك الجيوش، تتشابك، تتلاقى الآلات البيضاء، تطعن وتدمي تعلو صيحات غريبة فوق الصورة يتدلى خنجر كان لجده كبور، ينال كذلك قسطه من مخيلة نبيل...يتعالى نباح الكلاب أمام الدار و يصحو من فجوته يضطجع على جانبه الأيسر ، متوسدا ذراعه ، ينتقل إلى سيناريو آخر ، يخيل له أنه من رعاة البقر، يمتطي جوادا، يتبع الهاربين ،يلكز الدابة ، يطلق النار على غرار البطل "زورو" يلج وهو في هيئة "زورو" ، حانة ينسل روادها ، تلبى رغباته ...
في الفصل يقبع في المؤخرة ، لا هو بمشارك ولا هو بمتفرج ، يناديه معلمه ( سي التوازن ) لاستظهار الدرس السابق ينتصب بجوار السبورة يحملق في السقف ، يبتلع لعابه ، لاشيء ، يصيح المعلم في وجهه قائلا : حمار وبغل وفيل لماذا تهمل حفظ دروسك ؟ مكانك ، غدا سترى ... يرجع إلى مكانه مطأطأ الرأس ورفاقه يضحكون . تحاول أمه قدر المستطاع تلبية طلباته لا لشيء الا ليقرأ ويضاهي زملاءه دون جدوى ، سكان الدوار يعطون به مثلا في الكسل والبلادة ويجد نبيل نفسه مضطهدا، لايقبله أصدقاؤه أثناء مرحهم الا بشروط .، يتسلقون الزيتونة استعدادا للعبة "ضار" يتبادلون الركلات ، وعندما يوشك أحد أن يسقط ،يصيح :"ضار"ويتركه خصمه، هاهو نبيل فوق غصن، يضرب، يسمع صوته من بعيد . وفجأة قطعت مخيلته صورة"زورو" والقوم حاملي الخناجر، سدد الركلات ، تلو الركلات نحو صفوان ، صاح "...ضار" لكن نبيل لم يتوقف ، توالت الضربات وسقط صفوان من أعلى الزيتونة ولقظ أنفاسه الأخيرة تحت ظلها الوارف ، تجمع الأطفال ، صاح البعض الآخر ، وتجمهر السكان حول القتيل ،اغتنم القاتل ذعر الناس وانسل هاربا، شيخ القبيلة يعوي كالذئب مرددا:
تبعوه...جيبوه ...يالله ...فيساع.
سي التوازن، المعلم ، يعدو وهو يصيح :
فعلها الحمار ...فعلها الفيل ...هيا آتوا به ...هيا...
الدوار كله وراء الفار ، يقتفي أثره . حليمة مزقت ما كان يغطي شعرها، أظافرها ترسم جروحا في وجنتيها تفقد وعيها ويهوي بدنها على الأرض، أرجلها ترتطم بالتراب في غير انتظام، جاراتها يحاولن إرجاعها إلى صوابها، بدون فائدة . أخريات نقل إليهن الخبر كالبرق وعدون تاركات غسيلهن ."الهتار المهبول"يقطع الفضاء ذهبا وإيابا، يضحك، يقلد كعادته سائق شاحنة يميل رأسه، يوحي أنه ينظر من النافذة،يرسم بذراعه إشارة وكأنه يفسح المجال لسيارة لتمر ، يتوقف ،يرجع إلى الخلف ، يدور ويشير إلى الناحية التي لم يحتم بها نبيل قائلا: - راه...راه...راه...
أما عمي قدور فقد ضرب الأرض بعمامته ينهار ويجلس مسندا ظهره بجدع نخلة مرددا كلاما غير مفهوم، رجال تركوا بهائمهم تدور وتدور ، يساعدونه على القيام ويلتفون حوله، يكلمونه مخففين عنه أثر الفاجعة، ينضم إليهم إمام المسجد ويأخذ الحديث من المتكلمين، أغلب الظن أنه يدعوه إلى الصبر لأن قدر الله لا مرد له، لكن مطاردة نبيل تستمر، لم يستطيع أن يقاوم ويستسلم، يمشي أمام القابضين عليه ، يخطو خطوة، ويخطون خطوات بعده، نبيل يسير نحو الأفق المغلق ...ساعات وتهدأ العاصفة. يتم كفن جثمان صفوان ويتشكل موكب جنائزي يتبع النعش الصغير المحمول على الأكتاف، عبر الطريق الملتوية على إيقاع أصوات الرجال.
أزيلال : الأستاذ : حسن أيت الزهرة