تحدّت الموت ليعيش غيرها..إنها الأمّ
لا أحد في أمريكا كان يعلم قبل شهرين ونيف أن حياة الشابة "دجيسيكا أرّيندال" ستتوقف في أعز لحظات سعادتها وتطفىء رياح الموت شمعة حياة توقفت في 33 شمعة ،يروى أنها كانت تقتسم عطور عواطفها بين حب ابنتها المقدس وبين هوى العشيق "أنطوان دافيس" الذي فتحت له قلبها ليقطنه وأسعدت عشهما بمولودة كالبدر في الليالي الحالكة جعلته ينسى مهامه الشاقة بقوات المارينز الأمريكية وتؤنسه صدمة زواج الأمس الذي فشل في مهده.
لا أحد كان يتخيل أن هذه السعادة الأسرية ستنقلب في رمشة عين إلى جمر جحيم على إثر نقاش حاسم فضى بإقدام الحبيب على حماقة ابتدأت بضربات عصا البيزبول عند مدخل البيت لتنتهي بطلقات رصاص داخل الحمام التي اختبأت فيه دجيسيكا حاضنة ابنتهما ذات الستة شهور لتقيها بجسمها خوفا عليها من حماقة الزوج المخمر .
احتضنتها وضمتها لصدرها الحنون المرتجف قبل أن يهاجمهما ببندقيته ويصب حمولتها عليهما موفرا رصاصة استقرت في جمجمته كنهاية دامية لجندي أمريكي عاد ناجيا من مجازر العراق ليموت في أطلانطا على يديه وبرصاصة الرحمة المتبقية من بندقيته التي استعملت هذه المرة للصيد الآدمي عوض اصطياد الحيوانات البرية.
لا أحد كان يصدق هذا المشهد ، تموت الأم والوجع يقطع أحشاءها ويمزق قلبها وتعيش فلذة كبدها لتنعم بالعيش وتستنشق رطوبة آمال الصبى وتتذوق عذوبة الحياة الجميلة التي حرمت منها في ريعان شبابها.
بعدما أن اعتقد الجميع أنهما فارقا الحياة كانت المفاجأة الصادمة التي أذهلت فرق التدخل، لم تمت الرضيعة ما زالت حية ترزق داخل كرسي المرحاض الذي كانت مرتمية عليه جثة دجيسيكا ،ليتضح في التحقيق أنها تصدت للرصاص بظهرها لترمي بابنتها داخل الكرسي وتقيها بصدرها لتموت بطلة وتخلد في الدنيا من أحببتها في يوم من الأيام وماتت متمسكة بصمود حبها لتضمن لها البقاء والخلود.
لا أحد من عائلة الحسناوي المغربية كان ينتظر قبل شهر فاجعة إحراق بيتها بكازاليوني بتلك المنطقة الهادئة من ضجيج مدينة فيرونا الإيطالية،بعد أن استحلى خالد الحسناوي سعادة تكملة الإيمان وتحقيق الأحلام العاجية التي يحلم بها كل مهاجر فارق أهالي الأمس وديار الأوطان واستقر بين أحضان دفء زوجته نادية وابنهما محمد أمين ابن الخامسة سنين، اللذان ملئا عليه ضيق الهجرة وعوّضا عليه قساوة البعد والرحيل بكل ماهو رقيق وعذب وجميل خاصة في وقت الأزمة التي أثقلت كاهل أعظم الأسر بهذا البلد المترنح بين السياسة المتقلبة والمستقبل المجهول.
لا أحد من أهله ومعارفه كان يتحسس أو يتوهم ولو في الحلم قبل أسابيع أن تلك المدفأة الكهربائية وقارورة الغاز الملعونة سيصبحان آلة تصفية وقتل صامت بألسنة دخان قاتل ونار حارقة خنقا روح نادية وطفلها محمد أمين في حين الأسرة غارقة في نوم عميق وحلم لم يفسّر بعد. لم يكن خالد ليصحا وينجو من موت محقق لولا صرختها الباحة التي جعلته يصحو ويقفز من نافذة النجاة لتغمض عينيها من جديد وإلى الأبد ، ارتمت في حضن الوفاة ليعانق شريكها في الحياة النجاة والبقاء ويزداد من جديد ويكتب له عمر مديد ولم يتوقف أجله في سن الرابعة والثلاثين كما توهم العديد ممن رأوا الحادث أو سمعوا به لفظاعة الحريق والظروف المأساوية التي فاجأته في عمق الأحلام وحلكة الظلام في تلك الليلة الشديدة البرودة.
لا أحد كان يتصور المشهد النهائي لهذه الكارثة بعدما انطفأت حرارة النيران وخمدت ألسنة الدخان وسلط الضوء على المكان ،ظهرت الضحيتان في صورة بريئة مقدسة اختلطت بالحزن والأسى وحب الأمومة وعطفها الأبدي الخالد الذي يتحدا كل شيء ولو كان الموت.
أمّ تموت وهي تحضن صغيرها بين ذراعيها خوفا عليه من الخطر ،تضمه لصدرها وتحمي ما ببطنها وهي تستسلم للأجل والقدر عبرة وأي عبرة لمن يعتبر.
بقلم: ذ.محمد بدران