البحث عن أرضية مشتركة " نظرة قرآنية "
لا يختلف بني البشر على أن سمة النزاعات اليومية الآنية منها والمحددة ، الدائمة والمتقطعة هي سمة بارزة في كل الأمم والشعوب ، فلا تكاد تجد بؤرة على وجه الأرض إلا وتشهد صراعات وتجاذبات يختلف مداها وتأثيرها بقدر تنوع مجالاتها ، وقد نجد في تتبعنا لمواقف المتصارعين أبعاداً أخرى تختلف حسب الزمان والمكان ، وقد تجتمع في الصراع الواحد عدة نقاط للإختلاف منها ما هو عرقي أو ديني أو جغرافي ، لكن الفرق بين كل هذه التجاذبات يحدده أسلوب تعامل المتنازعين مع الأطراف الأخرى والمتدخلين فيها ، وحتى لا ندخل في الخلاف الحاصل حول المعنى بين مصطلح "نزاع" و"خلاف" فسأبني مقالي على ما يحدده السياق دون ملاحظة الفارق ، لأن ما يعنيني في حديثي هو كيفية تدبير هذه النزاعات "la gestion des conflits " .
النظرة القرآنية الشمولية :
إذا راجعنا آيات القرآن وما تضمنته من أسس وأحكام ونماذج في هذا الصدد فسنجد أن الكتاب الكريم غني بما يمكن من خلاله خلق تصور عام حول المقاربة التي إختارها الإسلام وأسلوبه المقترح لتدبير النزاعات ، وسيتبين لنا جلياً في هذه السلسلة أن محكم التنزيل في حديثه عن الإختلاف قد قاربه بمنطق متكامل يتدارس أوضاع الفرد والمجتمع و أسلوب التعامل مع الخلافات ، والتصور الذي يجب على الإنسان أن ينظر به إلى العالم حوله بدءً بالإختلاف البيولوجي و اللّغوي والديني بين الشعوب والقبائل ، والصراعات الدولية السياسية والخلاف داخل المجتمع إلى التنازع بين أفراد الأسرة الواحدة .
- الإختلاف آية كونية :
لم يقف حد القرآن الكريم إلى مجرد إعطاء تصور معين حول هذا الإختلاف إنما تعدّاه إلى جعله نوعاً من الآيات الكونية التي يجب أن نتدارسها ونتعلم أصولها ، قال ربنا : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (آية 22 / الروم ) ، فنلاحظ في هذه الآية البليغة كيف قارن الله عز وجل بين خلقه للسماوات والأرض وما بث فيها مما نعلم ومما لا نعلم ، وبين إختلاف ألسن بني البشر وأعراقهم وألوانهم ، وهي آية وبرهان للعالِمين الذين يدركون أن الإنسان بتركيبته الفريدة والمعقدة والإختلاف بين كل البشر إنما هي دلالة على مكانة هذا المخلوق ومدى عناية الله به ، يقول العلامة الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية : "هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها ; فخلق السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية ، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقارنة المتلازمة كالليل والنهار والفصول ، والمتضادة كالعلو والانخفاض .
وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات ، وخص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية ، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض ، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة ، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض ، واختلاف مسامتة أشعة الشمس لها ; فهي من آثار خلق السماوات والأرض ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيدا له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض .
وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوال عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية ... واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كونه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات ، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة . " ( التحرير والتنوير / ج 22 ص 73 ) .
وقال العلامة الألوسي في تفسيره - روح المعاني- : (وألوانكم) بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه، فالألوان عنى الضروب والأنواع كما يقال: ألوان الحديث وألوان الطعام، وهذا التفسير أعم من الأول، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السموات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي فيما ذكر من خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان (لاَيَاتٍ)عظيمة كثيرة (للعالِمين) أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون) وقرأ الكثير (العالَمين) بفتح اللام، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة.
- التأسيس لأرضية مشتركة لتفهم الإختلافات :
لقد أسس القرآن الكريم لأرضية مشتركة يمكن من خلالها تفهم الإختلافات بين الأمم والشعوب والأفراد ، وتكلم الكتاب العزيز على أن مناط إشتغال كل فرد أو جماعة مع هذا الإختلاف إنما هو من أجل التعرف على الآخرين ودراسة أسلوب معيشتهم ، قال ربنا : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( الآية 13 ، سورة الحجرات ) ، فالخطاب هنا هو للناس كافة في كل الشعوب والقبائل والأديان والملل ، خطاب يؤسس لنظرة شاملة وبناء أرضية مشتركة نستطيع من خلالها تدبير الإختلافات وتفهمها ، وإذا علمنا أن الآية نزلت في آخر ما نزل من القرآن ندرك تماماً أن القرآن الكريم قد نجح في هذه الآية في فتح المجال لبني البشر حتى يكون أسلوب تعاملهم مع إختلافاتهم غاية في التفاهم و حسن التعامل ، فلم يجعل العلاقة بين الشعوب من أجل هيمنة فئة على أخرى أو لخلق صراعات إثنية أو عرقية ، بل لا مجال أرقى من التعارف للتعامل مع الآخرين ، وقوله سبحانه : إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، يحيلنا إلى مبدئ قرآني عظيم وهو أن لا أحد يمكنه من بني البشر أن يعلم من الأتقى ، قال ربنا : {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [32: النجم] ، وإذا شهدت دول الإسلام منذ القرون الأولى إلى يومنا هذا معارك دموية راحت ضحيتها شعوب وقبائل فإن سببها الرئيس هو عدم تفهم الإختلافات والنظرة الأحادية الجانب ، وتأثرت الصراعات عبر الأجيال بتحكم النوازع السلبية في الإنسان وتغليفها بمبررات عقائدية أو عرقية ، وإذا كان القرآن الكريم قد أسس لمبدأ الجهاد فإنما إلى أنه أسلوب لرد الصائل المعتدي ولن تجد في القرآن آية تشرعن القتال دون مناط الدفاع عن النفس ، وهذا بحث آخر يمكن البسط فيه في مقالات أخرى ، وحث القرآن الكريم على السلم والنزوع إليه جاء في سياق تاريخي كان فيه السيف والجرءة على الدم أحد أسس العلاقات بين الأمم ، قال ربنا : وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (سورة البقرة من الآية 190 إلى الآية 193 ) . فلا عدوان إلا على من قاتلكم ظلما بعد أن تستنفذوا كل الحلول السلمية ، كما قال سبحانه : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ، وهذا البحث له مناط آخر ونظرة القرآن إلى كل نظام معين يجب دراستها من جوانبها المتعددة وخلفية المتلقي التاريخية والإنصهارات الثقافية (Assimilation) التي طرأت على عرب ما بعد البعثة المحمدية ( ...تتمة ) .
الكاتب : المرتضى إعمراشاً ، إمام وخطيب مسجد سابقا ، عضو مجلس القيادات الشابة بالحسيمة التابع لمنظمة البحث عن أرضية مشتركة بالمغرب