في أثر "الأنا" الشاعرة عند "خديجة برعو"، أنا "الوطن"
في غمرة نشوتها و هي تتجول بين أروقة المتحف الذي يحوي بين خوائنه بعضا من فتوحاتها الأركيولوجية، تتأمل جرة نبيذ، دن زيت، نصلا لمقاتل مجهول، ترسا مصفحا، دخيرة قديمة، رقوقا تحوي تفاصيل لمرابضات متصوف مغمور على مشارف الكشف، هيكلا عظميا من العصر الحجري، هيكل ديناصور... اندفعت الدماء حارة في شرايينها، وانزلق سطر شعري مجيد للخالد "محمود درويش" على لسانها من غير وعي، وصاحت و هي ترتجف: " على هذه الأرض ما يستحق الحياة". أحست برغبة عنيفة في الكتابة، موقنة أنها لحظة الفتح الشعري التي طالما انتظرتها؛ و هي المجذوبة السالكة في مدارج عشق هذا الوطن، المتبتلة في محرابه؛ لينطلق هذا السفر الشعري، غير أن المفرد بالعرفان، الموصول بالعشق، المتصف بصفات الجلال و الكمال، المحجوب عن أعين الخونة و المارقين و الفاسدين، هو هذا الوطن الذي فني رسمه، و استوى اسمه في ذات الشاعرة؛ فكان ال "هو" وال"هي" شريانين لقلب واحد؛ من ال "هو" الإيواء و الرعاية و التمكين، و من ال "هي" خالص الحب و صدق التوكل و انعقاد العزيمة، ليصير ال"هو" و ال "هي" أنا خالصة تنصهر في بوتقتها كل العناصر، جسم واحد يدب على الأرض،و روح واحدة تحلق في البرزخ، و ما يترتب على ذلك من الوجد والتقلب في رمضاء الشوق و السهر و الذبول و دوام المراقبة و المراوحة بين الكتمان و البوح، فإن كتمت فهو تدبر في صفاته؛ على ما في الكتمان من مضاضة، و إن باحت فهو الهيام يتلبس شعرا.
من هنا، تنطلق هذه "الأنا" الشاعرة متدرجة عبر مقامات العشق تحلج طواسينها لتكون هي النقْطُ، و الوطن دائرتها في نوروز لا ينتهي، ظاهرة و مستترة، متغزلة في الكل أو في الجزء لينسحب على الكل. كما هو الشأن في نص: "سيدة الأعالي".
تقول الشاعرة:
"أنا سيدة الأعالي
أنا أزيلال"
حيث تتغزل "الأنا" بجزء من الوطن لينسحب هذا الغزل على الكل، و يتلبس بلبوس مدينة قائمة الجغرافيا و الناس، فيتبنين النص على شكل سِفْرِ تكوين تنسحب تحته مجموعة إصحاحات، لكن بعناوين مغايرة.
- إصحاح الحلم: حيث تسمو "الأنا"/ المدينة لتعانق أبواب السماء، و تنصب نفسها حارسة لأحلام البسطاء، توقع الشمس في غرامها، لتبزغ كل يوم كي لا يتجمد الفقراء من البرد.
- إصحاح الهوية: فيه تسرد "الأنا"/ المؤرخة الضاربة في القدم، المدججة بترسانتها الأركيولوجية قصة الخليقة، و تجيب عن الأسئلة الكبرى للوجود؛ كيف خلقت الأرض؟ كيف استوطنها الإنسان الأول؟ كيف اختلطت الأعراق و انصهرت؟ كيف بدأت قصة الحضارة؟ متى خط على صخرها الحرف الأول؟ كيف سطر رجالها أروع الملاحم، لما تصدوا بقلوب من زبر الحديد لاجتياح الغزاة، و عمدوا بدمائهم ترابها لتزداد ألقا، و يعلنوا للعالم كافة أنهم قوم لا يبيتون على ضيم.
- إصحاح البشارة: و فيه تبث "الأنا"/ المدينة/ النبي؛ بشارتها إلى الناس بمستقبل مجيد، يقود فتوحاته الأطفال، مسلحين بالعلم، لينفُضُوا على "ازيلال" / المدينة / الوطن غبار الجهل و التخلف و العزلة و الإقصاء.
ثم تخرج هذه "الأنا" في معراجها العرفاني، و سفرها الشعري من حالة الكتمان و الاستتار إلى التصريح و الجهر، يزيدها الغضب ألقا و وهجا بعد أن تم المس بمقوم من مقومات الوطن، و رمز من رموزه، متجسدا في شخص الرسول الكريم "صلى الله عليه و سلم " على إثر الهجمة الغربية السافرة التي تعرض لها، لتتسع دائرة العشق، و تنتقل "الأنا" النقط من دائرة الوطن، إلى دائرة أرحب هي دائرة الأمة، لكن ببركار الانتماء. و هو ما يظهر جليا في نص: "باسم الحرية" الذي بعد أن عددت فيه مناقب الرسول الكريم " صلى الله عليه و سلم "، متغزلة بسيرته العطرة، لافتة الانتباه إلى قيمته الإنسانية، متطرقة لفضائله على البشرية كافة، وجهت هذه "الأنا"، بصوت غاضب و بلهجة ساخرة، الدعوة إلى "السادة الكبار"، إلى ذلك الغرب المتعجرف بعلومه، و اقتصاده، و لكن المستهتر بالقيم الإنسانية و الروحية تحت ذريعة الحرية، وجهت له دعوة للقراءة عن الرسول الكريم "صلى الله عليه و سلم"قبل التهجم عليه.
تقول الشاعرة مخاطبة الغرب بلغته:
Please read about our prophet
Ignorance leads to hostility"
هي دعوة قد تبدو للوهلة الأولى نوعا من الاستعطاف أو التوسل المرفوع من ضعيف إلى قوي، و لكن قليلا من التأمل يكشف أن هذه الدعوة إلى القراءة تنطوي على سخرية لاذعة من هذا الغرب المتعحرف و العدواني، و لكن في نفس الوقت الجاهل بثقافة الآخر، فالجهل يقود إلى العدوانية حسب الشاعرة:"Ignorance leads to hostility"
إن هذه "الأنا" في معراجها العرفاني الشعري، عبر مدارج عشق الوطن، في مراوحتها بين الكتمان و البوح، بين التضمين و التصريح، نجدها تتلون بعدة تلاوين؛ فهي العاشقة، الحالمة، و المؤرخة، و الأركيولوجية، المبشرة و الفارسة المدافعة، و الساخرة المتهكمة. إنها "أنا" متعددة الأبعاد، و هذا التعدد نابع من نضج الوجدان و عمقه و توهجه، و تشربه للثقافة الأم، و اطلاعه على ثقافة الآخر، تعضد الوجدان في ذلك؛ هندسة العقل الذي يحتفي بجمالية العبارة، ليصب فيه ألق المعنى، و يضبط الإيقاع مثل "مايسترو"، ليتهادى النص مثل "أوبرا".
قد يسائل البعض هذه "الأنا"؛ إلى أين يقودك هذا السَّفَرُ الشعري؟ فتجيبهم: "إلى منتهى عشق هذا الوطن". ما أجمل لحظات هذا السفر؟ فتجيبهم: "حينما أردد النشيد، و أنا أرفع العلم". قد يتهكم عليها البعض ساخرا، هذا الوطن لم ينزلك إلا المناطق الباردة. فتجيبهم قائلة: "الوطن يحتفي بي فلا ينزلني إلا الأعالي و مدفأتي لا تخمد طوال الشتاء، ما دام يواتيها الحرف".