|
|
المثقف!
أضيف في 08 مارس 2021 الساعة 15 : 20
المثقف!
عبد القادر كلول/ القصيبة
ينادونه المثقف. أعجبه لقبه، ينتشي بسماعه يتردد على ألسنة الجميع. كان كل ما فيه يوحي فعلا بأنه من طينة المثقفين، ابتداء من قبعته الفريدة "البيرية" التي اقتناها ذات صباح من بائع ألبسة قديمة، كان مارا كعادته لشراء جريدته من كشك قريب، رآها مرمية قرب حذاء مهترئ وقد أنهكها الإهمال وعلت سحنتها الأغبرة المتراكمة، دفع مقابلها خمسة دراهم كل ما تبقى من نقود في جيبه؛ مصروفه لآخر الأسبوع. لم يساوم كثيرا إذ بات ثمنها في المتناول، بالإضافة لكونها ستضفي عليه حين يلبسها بعض سمات المثقفين، وسيشبه إلى حد كبير الماغوط أو زفزاف أو شكري... هكذا تخيل نفسه.
أثناء جلوسه في المقهى الذي يفضل أن يتواجد على ناصيه الطريق، بحيث تكاد تختلط كراسيه مع أرجل المارة في الأيام المزدحمة، ولا يفصلها عن عجلات العربات إلا مسافات ضيقة، ينزوي غالبا في ركن يتيح للجميع رؤيته، يبسط جريدته، يشعل سيجارة رخيصة ويبدأ في نفث دخانها بعيداً وهو غارق في نشوة النظرات التي تصوب نحوه من بعيد. بين فينة وأخرى يدون شيئا على ورقة أمامه ثم يعود إلى جلسته المترنحة المعتادة.
ينادي على النادل:
- واحد الكاس د الما عفاك.
يسرع النادل لتلبية طلبه مردداً بصوت جهير:
- دابا يا أستاذ. (حالاً)
يلتفت البعض ليلقوا نظرة على هذا الأستاذ المحظوظ فيزداد اعتذاذه بنفسه وتزداد تقمصاته لشخصية المثقف التي سكنته.
متخفيا داخل معطفه السميك وبيريته العجيبة، متسلحا بالجريدة التي تصاحبه أينما حل و ارتحل، والقلم المدسوس بعناية في الجيب العلوي لمعطفه كمسدس كاتم للصوت، يسدد به طلقات رحمة على المشككين في أهليته لحمل لقب المثقف.. يقتحم عوالم المقاهي المتناثرة كالفطر في أرجاء المدينة. ليس له مقهى قاراً يستقر فيه بصفة منتظمة، ربما حبا في تسويق صورته كمثقف، إذ بات عشق استقطاب النظرات إليه أكثر أهمية من البحث عن الهدوء ومتعة القراءة أو الدخول في متاهات النقاش. تصاحبه عزلته الباطنية، حيث لا تربطه بمحيطه ولا جرائده سوى نظرة خاطفة تتوجها في أفضل الأحوال تحية لشخص ما أو نظرة سطحية على مقال.
المثقف شخص غير عادي، نفخته الأنا حتى بات يتخيل نفسه شخصا استثنائياً، لا تغريه اللقاءات ولا تجذب اهتمامه الأحداث التي ينساق وراءها الجميع، إلا بمقدار ما يتيح له الظهور كتيمة تؤثث الأماكن والتجمعات. في المدينة التي يتقاسم سماءها مع الإنسان والجماد، كل شيء لبس رداء التغيير؛ المقاهي أضحت تغص بالمزيد من العاطلين.. الدروب صارت مرتعا للكثير من الحمقى و المتشردين.. الشوارع ازدادت شساعة وازداد استقبالها للعديد من الباعة المتجولين الذين أصبح جلهم مستقراً في أكشاك عشوائية محتلاً كل رقعة شاغرة على الرصيف.. البنايات ازدادت علواً وبعدا عن الجمالية في اللون والتصميم.. الكثير من الحدائق خُرّبت وحلت محلها فضاءات إسمنتية تنشر برودتها في كل الفصول.. معالم هنا وهناك طالها الإهمال حتى أضحت آثارا تبكي سطوة الطغيان.. عادات أصيلة أصبحت من التاريخ المنسي وحلت محلها ثقافات مستوردة تنخر العقول تحت ذريعة الانفتاح.. طرقات لا تفضي إلا إلى مزيد من العزلة والإقصاء.. ركود أصاب دواليب الاقتصاد حتى شلها.. مسؤولون يصلون إلى سدة الحكم بالكذب والخداع، لا يمتلكون من أساليب الإبداع غير استنزاف الميزانيات وتكريس مفهوم الجمود الفكري والعقلي.. الكثير من الأمور تغيرت، منها ما لامس بصيصا من النور والكثير منها تقهقر سنينا الى الوراء. كل هذا حدث في غفلة من مثقفنا الذي ظل شاهدا على الاستقرار.. بقي رمزا للجمود في عالم متحرك، لم يتغير شيئا في مسار حياته غير عناوين جريدته وألوانها التي باتت براقة، وملامحه التي أضاف إليها الزمن تضاريس السنين التي تعاقبت، كشجرة نخرة في حديقة الحياة، فقدت أوراقها وتعفنت جذورها لكنها ما زالت تعاند إيقاع الزمن بأغصان يابسة، يغذيها الأنا والكثير من الأوهام..!
|
|
|
[email protected]
التعليق يجب أن يناقش موضوع المادة
|
|
|