ثلاث تفسيرات عموما تحاول الإحاطة بأزمة كورونا التي تجتاح العالم حاليا و من المستبعد أن تستثنى منها أي بقعة علي البسيطة، هذه التفسيرات تلتقي في كون العالم يعيش أزمة حقيقة و من الممكن أن تمحو على الأقل % 1,5 من سكان الأرض إذا استمرت بهذه الوثيرة. لكن التفسيرات تنطلق من مرجعيات متباينة حد التناقض و من منظومات مرجعية مختلفة تماما، و يغلب كل تفسير على نوعية معينة من الذهنيات بينما نجد تأثيره منعدما عند نوع آخر:
ـ التفسير المادي/ التوجه العقلاني: الغالب على الانسان في الدول المتقدمة علميا، يرى أن الوباء سببه هو متعض مجهري على شكل تركيبة بروتينية ( فيروس ) غير حية و غير فعالة إلا بالتطفل على خلية من نسيج حيواني حي ( الأنسجة التنفسية بالنسبة لفيروس كورونا ) تحتوي حمضا نوويا يستعمله الفيروس و يوجهه بفضل حمضه النووي الخاص إلى انتاج تركيبات بروتينية عديدة مشابهة ( فيروسات )، هذه الأخيرة تفجر الخلية العائلة بعد نضجها و تتحرر لتغزو خلايا أخرى و توجهها بدورها لتصير مصانع جديدة للفيروس.
الوباء إذن سببه شيء مادي ( بروتينات ) يعرفه الانسان حق المعرفة و يتعامل معه يوميا بل يستعمله الانسان لمصلحته، و بالتالي فإن إيقاف الوباء لن يكون إلا بشيء مادي من جنسه: لقاح أو علاج على شكل مواد يبحث عنها و يتم تركيبها بعقل تجريبي مادي محض و خطوات تجريبية نجاحها يرتبط بعدد أخطائها و تكرارها. التصور المادي العقلاني الواقعي إذن للظاهرة يدفع بالأمل في إيقافها أو الخلاص منها إلى أبعد الحدود، حين يحصرها فيما هو مادي قابل للتجريب و قابل للاحتواء، لا مجال أيضا للاستعانة بشيء خارق أو للاستسلام و اليأس أو انتظار قدرة فوق قدرة العالم و زجاجاته داخل المختبر.
ـ التفسير اللاهوتي/ التوجه الميتافيزيقي: الذي تختبئ خلفه عقليات الدول المتدينة خصوصا و المتخلفة بشكل عام و تمسح فيه فشلها و يسمح لها باحتواء خوفها، بالنسبة لهذا التوجه فإن الوباء سببه لعنة إلهية أو سخط/غضب إلهي حل بالبشر حين زاغوا عن طريق الله و عمتهم الفاحشة و قلت فيهم الفضيلة: الله الغاضب أرسل و صرف غضبه من خلقه في كائن صغير يراه الله و لا يراه البشر يسلطه عليهم كعقاب لهم حين زاغوا و لكي يعتبروا و يعودوا إلى جادة الرشاد.
الوباء إذن قوة/لعنة إلهية ميتافيزيقية و إن كانت تتخذ من المادة (فيروس) سببا للتأثير على الكائن البشري، لكن الخلاص منها لن يكون بالبحث المادي عن العلاج أو اللقاح و إنما بقوة الدعاء و التضرع إلى الله الذي سلطها على الجماعة ليرسل قوة خفية/خارقة غير مرئية لتخليصهم. الجماعة إذن لا ترى لنفسها دورا ذاتيا في خلاصها خارج هذه القوة الخارقة التي لا يملكون إلا استجلابها بالدعاء و التضرع بعد الانتهاء من العصيان و المنكر اللذان كانا سببا في حلولها. هذا التصور اللاهوتي للظاهرة يدفع إلى استقالة العقل و التجربة و لا يحمل من الأمل إلا ما هو غيبي مرتبط بانتظار رحمة هذا الإله الغاضب، و يدفع إلى الاستسلام و اليأس لأن أساسه الخضوع و الاعتراف بقدرة الله وحده و نفي القدرة البشرية على إيجاد الحل.
ـ التفسير الإيديولوجي/ وهم المؤامرة: تنتجه بالأساس العقليات التابعة التي مرت من آلام تجربة الاستعمار و عقدة التوجس من الآخر المتقدم مقابل ال " نحن " ضحية المؤامرات المستمرة و التي تتخذ أشكالا تختلف حسب العصور مع وحدة الهدف الذي هو إبقاؤنا كما نحن و الحيلولة دون لحاقنا بركب التقدم. لكنه طرح قد تتبناه أيضا جماعات قليلة لم تخضع للاستعمار، لكن ليس من باب تبرير الفشل و إنما من باب التضليل و حسابات سياسية أخرى في ظل المنافسة على قيادة العالم. هذا الطرح مبني على أساس قدرة الدول المتقدمة على قيادة حروب من نوع جديد: الحروب البيولوجية الفتاكة و من بينها نشر الأوبئة عبر المتعضيات المجهرية القاتلة مثل البكتيريات المميتة و الفيروسات. بالتالي فوباء كورونا مظهر من هذه الحروب الجديدة، فيروس تنشره جماعة/دولة لتحطيم جماعة/دولة أو دول أخرى صحيا و من تم اقتصاديا و سياسيا من أجل الاستئثار بالقيادة العالمية اقتصاديا و سياسيا.
الوباء إذن شيء مادي أيضا سببه تركيبة بروتينية (فيروس) تم تطويرها و تعديلها في المختبر لتتحول من شكلها الطبيعي إلى سلاح بيولوجي فتاك غير قابل للاحتواء، و مادام الفيروس صنيعة المختبر فبالضرورة قد تم مسبقا صنع لقاحه أو علاجه قبل نشره تحسبا لانقلاب السحر على الساحر. هذا الطرح أيضا يحمل بصيصا من الأمل و لا يدفع إلى الاستسلام و الخضوع للقوى الميتافيزيقية المخلصة، لكنه مرتبط بتراجع الدولة الناشرة للوباء عن خطتها و استحضارها للبعد الانساني أو بمدى جدية البحث العلمي المختبري عن اللقاح أو العلاج لدى الجماعات الأخرى المتضررة مادام هناك قابلية للوصول إلى صنعه كم صنعته الجماعة مصدر الوباء من قبل. هناك بالتالي أمل و إعمال للعقل و اجتهاد في البحث عن الخلاص من الداخل و في ارتباط بالجماعات/ الدول الأخرى.
التفسيرات الثلاث رغم اختلاف منطلقاتها و مخرجاتها فإنها تتفق كلها على ضرورة البحث عن مخرج من مأزق كورونا، إن على مستوى التجربة و الخلاص المادي العقلاني أو على المستوى العاطفي (الرحمة الإلهية بالدعاء و التضرع) أو على مستوى ما هو سياسي. كل منها يتشبث بخيط رفيع من الأمل الأرضي المختبري أو السماوي الإلهي، مع اختلاف كبير طبعا في أفق هذا الأمل و قدرته على استنهاض القدرة البشرية لمواجهة خطر يهدد استمرارية النوع.
إن ما يقدمه التفسير الميتافيزيقي/اللاهوتي يعكس في الحقيقة وجه من أوجه الأزمة الكبرى التي تعيشها هذه الدول التي يتغلغل فيها التدين الشعبي الأسطوري المجرد من كل عقلانية، عقليات لم و لن تستطيع رد التحدي لأنها لم تتجاوز في منطقها و رؤيتها حدود الميتافيزيقا الوسطية في أحط صورها و كونها تحكمها إيديولوجيا كارهة للعقل و العلم التجريبي. إيديولوجيا غارقة في الممارسات و الطقوس الشكلية و الأحكام المسبقة الجاهزة و المسلمات غير القابلة للنقاش، فكيف يرجى منها الخلاص إذن؟ و المأزق الكبير الذي يكبل هذه العقليات كونها لا تستطيع التحرك خارج نطاق المنقول الجاهز الذي يشكل مرجعيتها الوحيدة، بينما مواجهة أي تحدي مستجد على النوع البشري يلزمه أولا الخروج من هذا النطاق الميتافيزيقي المكبل. و لعل هذه الأزمة إذا أضيفت إلى موجة التنوير و العقلانية الحديثة، تكون بداية للخروج من هذا الإطار الميتافيزيقي ذي الأفق المحدود أو كما يسميها محمد أركون " المدونة الأرتوذكسية المغلقة " و ما تنتجه من ذهنيات منغلقة نحو مزيد من العقلانية و الإيمان بالعلم و التجربة.