|
|
قضية بوعشرين و الحداثة الإنتقائية .. !
أضيف في 12 نونبر 2018 الساعة 45 : 23
قضية بوعشرين و الحداثة الإنتقائية .. !
مباشرة بعد صدور الحكم القضائي ضد المهووس الجنسي توفيق بوعشرين، لاحظت تناسل تدوينات الإستنكار و الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي، وإذا كانت نسبة كبيرة من هاته التدوينات قد خرجت من أشخاص محسوبين على تيار سياسي معين ينتمي إليه المتهم، مما يجعلها رد فعل طبيعي ومفهوم إلى حد ما، فإن نسبة أخرى لا بأس بها قد صدرت من أشخاص غير محسوبين على هذا التيار، و مواقفهم نابعة من إحساس ملح بضرورة دعم المتهم، لأسباب متعددة، تتنوع ما بين صداقة شخصية أو سابق معرفة أو زمالة مهنية في مجال الصحافة.
لكن المشكلة هي أنه حتى مع أقصى درجات الاحترام لحربة التعبير، يبقى من الصعب جدا تقبل بعض هذه التدوينات، التي تنوعت ما بين الإلغاء التام للضحايا جملة و تفصيلا، و اعتبارهن مجرد تفصيل تافه وسط مؤامرة دنيئة حيكت ضد المتهم من طرف خصومه السياسيين بغية إخراسه كصحفي مزعج، و بين مجموعة أخرى اعتبرت الأمر كله مجرد قصة خيانة زوجية و "فساد" بتعريفه القانوني الكلاسيكي، وتمادى بعضهم في المناداة بضرورة متابعة الضحايا كمتهمات في نفس الملف، مع حديث ضمني عن كون تلك العلاقات الجنسية التي هي موضوع القضية الأساسي، قد تمت تحت بند الرضائية بين أشخاص بالغين، مما ينفي أية حاجة للحديث عن وقوع جرائم اعتداء و اغتصاب و استغلال جسدي و معنوي تعرضت له الضحايا بشكل ثابت بأدلة مادية قدمت أمام هيئة المحكمة، و لعل الصدمة قد كانت أقوى عندما لاحظت أن بعض هؤلاء المعترضين على المحاكمة والأحكام القضائية التي خلصت إليها، يمثلون نخبة ثقافية و سياسية و مهنية تنتمي للتيار الحداثي أو العلماني و مع ذلك وجدناهم يتحدثون عن ضرورة تطبيق قوانين و فصول يتفق كل الحداثيين على ضرورة إعادة النظر فيها و في وجودها من الأصل، لكونها تتعارض ضمنيا مع مفاهيم من المفترض فيهم أنهم يدافعون عنها و يطالبون بترسيمها نصا في قوانين المملكة، وهي مفاهيم الحريات الفردية التي يتفق حولها العالم المتحضر الذي نسعى جميعا إلى إيجاد موطئ قدم لبلادنا وسطه، وهذا تناقض فادح و صادم من طرف هؤلاء الحداثيين و العلمانيين أعجز تماما عن فهمه أو استيعابه مهما حاولت
وبالتالي يصبح من الضروري هنا إعادة تذكير هؤلاء الأشخاص بمعطيات أساسية من هذا الملف، يبدو من الواضح و الجلي أنهم قد تناسوها عمدا في غمرة فورة الدفاع عن صديقهم المدان في ملف أخلاقي بالدرجة الأولى، و ليس سياسيا كما حاول البعض إيهام الرأي العام، سواء عبر الصحافة أو منصات التواصل الإجتماعي، فالملف يشمل أولا أدلة مادية قوية لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها مهما حاولنا، فهناك التسجيلات المصورة للفعل الإجرامي أولا و التي ضبطتها الشرطة في مقر عمل المتهم و في مكتبه الذي ارتكب الأفعال داخله بشكل حصري، و هناك الأدوات التقنية التي تم عبرها التسجيل و التي ضبطت بنفس الصيغة و في نفس الوقت، ثم هناك الضحايا و عددهن الكبير و امتداد الفعل الإجرامي زمنيا لمدة كبيرة، بحيث يتأكد أنه لولا افتضاح أمره لكان المتهم قد استمر في جرائمه حتى اللحظة و دون توقف، ثم هناك تهم الاغتصاب في حق ضحية واحدة على الأقل تقدمت بشكاية رسمية وضحت فيها عبر تصريحاتها أن المعني بالأمر قد مارس عليها الجنس عنوة و ضدا على إرادتها داخل نفس المكتب و لم يلق بالا لرفضها كما شرحت هي الأمر أمام رجال الشرطة القضائية، ثم هناك و محاولة الاغتصاب في حق عدة ضحايا تحرش بهن المتهم عدة مرات داخل مكتبه و قدمن شكايات للشرطة تروي تفاصيل هذا الاعتداء و تصريحاتهن قد تطابقت مع محتويات الفيديوهات المضبوطة في مكتبه، ثم هناك مسألة الاستغلال الجنسي والمعنوي المتواصل في حق مجموعة أخرى من الضحايا كن عرضة لمساومات و ابتزاز المتهم طيلة مدة طويلة بحيث استطاع عبره ضمان استمرار خضوعهن لإرادته الدنيئة دونما اعتراض.
ثم هناك القوادة و استغلال الهشاشة الاجتماعية و المادية فيما يخص جزء كبير من ضحاياه سواء عبر الوعد بالعمل في مؤسسته الصحافية أو عبر الترقية المهنية (وهذا الجزء المهم هو يسميه القانون الجنائي بجريمة الاتجار في البشر و التي يرفض البعض عمدا استيعاب حيثياتها، ويعمدون إلى تحوير الموضوع بشكل سمج و مغرق في التفاهة)، ثم هناك تعدد الضحايا الكبير إلى جانب أسلوب الإعتداء و الاستغلال الثابت و المتشابه بينهن كلهن بدون استثناء مما يفسر جانبا مهما من شخصية و نفسية المتهم التي تبدو أقرب إلى شخصية المفترس الجنسي السيكوباثي منها إلى شخصية الصحفي الهمام المغوار المسكون بطهرانية عميقة لطالما جعل منها أساس معظم مقالاته و افتتاحياته، وهذا التناقض بين شخصيتين مختلفتين بسمات و ردود فعل على طرفي النقيض من بعضهما البعض لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزه عند أية محاولة لتحليل و فهم جرائمه المقززة، ثم هناك قضية الابتزاز بالتسجيلات المصورة، و الأهم من كل ما سبق هو كون المتهم نفسه لم ينكر و لو مرة واحدة أنه قد مارس الجنس مع ضحاياه داخل مكتبه بشكل متواصل، إذ كان مجمل اعتراضه يتمحور حول مصدر التسجيلات نفسها التي لم يعترض على محتوياتها و لكنه يرفضها لكونه ينكر قيامه بوضع الكاميرا داخل مكتبه بنفسه.
وزيادة على كل ما ذكر أعلاه، تبقى مسألة هي النقطة الرئيسية في هذا الملف، لأن العلاقة المهنية بينه كرئيس و رب عمل و بين ضحاياه كمرؤوسات يشتغلن لديه، تلغي أية إمكانية للحديث عن وجود مفهوم الرضائية بينه و بينهن فيما يتعلق بممارسة الجنس دون الحديث عن سياق هذه الممارسة أو نوعيتها و الظروف المحيطة بها، سواء قبل أو أثناء أو بعد ممارسة الفعل المدان قانونيا، و نقطة الرضائية هي ما تحسمه نصوص قانون الإتجار بالبشر، دون الحديث عن كون الأفعال التي توبع بها المتهم قد تمت داخل مقر العمل و بشكل متواصل طيلة سنوات، و هذا المعطى المهم في حد ذاته ينهي أيضا كل هراء حول الرضائية، لأن مكان الجريمة يؤكد أن المتهم قد استغل سلطته المعنوية و المهنية في ممارساته اللاأخلاقية، فلو تنوعت أماكن ارتكابه لأفعاله الإجرامية خارج مقر العمل، لكان من الممكن البحث في إرادة ضحاياه في سياق مختلف عما روينه بألسنتهن سواء أمام الشرطة القضائية أو أمام المحكمة، دون أن ننسى أنه إلى جانب كل هذا فكون المتهم يمارس مهنة حساسة مثل الصحافة، و لديه حزازات، و ربما عداوات مع شخصيات عامة بعينها، لا يلغي بأي حال الأدلة المادية التي حسمت فيما يخص قرينة البراءة، إذ أن الشك في ارتكابه للأفعال المنسوبة إليه ينهار تماما أمام محتويات الفيديوهات التي عرضت على هيئة المحكمة، و التي تطابقت تماما مع تصريحات الضحايا حول ما عانين منه.
خلاصة الأمر هي أن الرجل مدان قانونيا و أخلاقيا بارتكاب جرائم مشينة ومقززة في حق ضحاياه، و هذا بما ثبت بشكل قاطع مما ظهر من تفاصيل ملفه الذي عرض على أنظار المحكمة طيلة أكثر من 8 أشهر و عبر أكثر من 80 جلسة لم تمنع فيها هيئة المحكمة أي طرف من الأطراف المتقاضية من عرض ما لديها من دفوعات و اعتراضات و شكوك، و أنصتت للجميع، حتى لمن حاولوا تحويل المحاكمة لسيرك إعلامي بتصرفات أقل ما يمكن أن يقال عنها هي أنها مراهقة بعيدة كل البعد عما تمثله قضية بهذا الحجم من حساسية كبيرة كان من المفروض أن تتم مراعاتها و خاصة من طرف جزء كبير من دفاع المتهم، و في ظل هاته المعطيات، يصبح من المخجل و المعيب بشدة أن نجد أشخاصا محسوبين على التيار الحداثي و العلماني، يخترعون تصريحات و تساؤلات وتدوينات بهلوانية بهدف دعم المتهم في وضعه الحرج، و لو ضدا على المنطق السوي و الأهم من كل ذلك، ضدا على المبادئ و المفاهيم الإنسانية التي من المفترض فيهم أن يدافعوا عنها بحكم مواقفهم و انتماءاتهم السياسية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالحلقة الأضعف في مجتمعنا، و هي المرأة التي يبدو أن جزءا كبيرا منهم قد نسي أو تناسى عمدا أن الأفعال قد مورست ضدها كامرأة أولا.
أن يسعى البعض لدعم المتهم في محنته الصعبة جدا بعد صدور الأحكام القضائية ضده و بعد ثبوت ارتكابه للأفعال الإجرامية التي توبع بموجبها، هو أمر مفهوم بعض الشيء، لكن أن يقوم البعض بإلغاء الضحايا و الأفعال المقرفة التي ارتكبت ضدهن و السياق الذي ارتكبت فيه و الأدلة المادية القطعية التي أدانت بها هيئة المحكمة المتهم، هو أمر مريب جدا و ربما مرعب حتى، خاصة إذا صدر من طرف من كنا نتوقع منهم التزاما أخلاقيا أقوى و أكثر نبلا مما المستوى الذي انحدروا إليه.
بقلم الصحفي/ مهدي بوعبيد
|
|
|
[email protected]
التعليق يجب أن يناقش موضوع المادة
|
|
|