الصحافة الجهوية مهنة من لا مهنة له
وأنا أتصفح بريدي الإلكتروني كالمعتاد، فوجئت بأحد الزملاء /الأصدقاء الأعزاء يسألني عن حالي وأحوالي، ويتساءل عن أسباب غيابي عن المشهد الإعلامي الفاسي، وانقطاعي، او مقاطعتي لاجتماعات وندوات الصحفيين، وختم متمنيا أن يكون المانع خيرا !!
وبعد أن حمدت للصديق/الزميل المحترم كريم اهتمامه، وشكرت له لباقة مصارحته وتأدب مكاشفته، قررت أن أفتح له قلبي وأبادله المصارحة والمكاشفة وملامسة الحقائق.
ولإشباع فضوله وإشفاء غليله، وجدتني مجبرا على أن أسرد عليه قصتي مع الصحافة مند نقطة الانطلاق الأولى لي في عالم الصحافة الذي دخلته سنة 1989 آتيا من حقل التعليم، كمراسل لعدد من الجرائد اليومية والأسبوعية، ثم مكلفا بقضايا نقابة الاتحاد العام للشغالين، الذي كنت فيه النائب الأول لمكتبه الجهوي لجهة فاس، حيث كنتُ انذاك مازلتُ غِرّا طوباويا كثير الحلم، وكانت أحلامي بسيطة، ولكنها كانت، على بساطتها، تحيى في نفسي الأمل، وتزرع فيها الشعور الذي جعلني ولمدة ليست بالقصيرة ، أقبل على العمل الصحفي بنهم، وأتمسك بعناد شديد بصحبة الصحفيين - أو من كنت أظنهم كذلك – الذين فتح لهم ذراعيّ على وسعها لاستقبل وانهل من وهج ما كنت أظنه صحافة، لكن الأحلام شيء والواقع شيء آخر ..
استمر صديقي/الزميل المتسائل -بعد أن استطاب لعبة سؤال جواب - في طرح الأسئلة، الواحد تلو الآخر، فقال متسائلا : وما الذي حدث إذن ، وما الذي تغير ؟؟؟..
ـ ج ـ لقد صدمتني واقع الصحافة الجهوية الذي كان أنداك مرا والحقائق أمر –كما تعلم أيها المحترم، وما أظنه تغير للأسف الشديد .. خاصة بعدما انزاح الغشاوة عن عيني ، وقل الانبهار ، وزال ما كان يتخفى خلفه أشباه الصحفيين الجهويين من زيف ، وتبددت الأصباغ والماكياجات التي كانت تستر سوءاتهم ، لتظهر حقيقتهم واضحة وضوح الفضيحة العارية.. وانكتشف صورة صحافتهم المتسمة في أغلب مضمونها بالسوقية والابتذال والخروج عن الذوق العام ، صحافة تعج بأميين ليس لديها أي احترام تجاه المسؤولية الأخلاقية والفكرية لعقلية الإنسان، ولا يتقنون من العمل الصحفي إلا النميمة والأحقاد والتهافتُ والتناحُر على الصغائرَ وحول التفاهات وبيع الكلام الفارغ، البعيد عن المبادئ والقيم والقضايا الكفيلة بتهذيب وتثقيف وتحرير الإنسان.
مراهقاتٌ وهزائمُ وانكسارات ومهازل وسلوكيات سفيهة يصدر جلها عن أولئك الذين يتظاهرون بمعرفة الصحافة، وهم من أشد الجاهلين بها والمضمرين لعدوانية مقيتة لها، أربكت قناعاتي، ومكنت اليأس والإحباط من التسلل إلى نفسي، ومحاصرتي وخنقني، إلى درجة أصبحت معها لا أتحمل الكثير من تلك السلوكات اللاصحفية التي لا تحتمل، والتي ما أظنني كنت لوحدي في ذاك الشعور بذاك الكم المتراكم من الألم والمعاناة، والذي على ما يبدو أنه قد أصاب الكثيرين غيري، وأن ما شعرت به هو شعور سائد، يظهره البعض ويخفيه البعض الآخر، تتقارب الحالات أو تتباعد، غير أن الأسباب تبقى واحدة ..
ـ س ـ هل معنى هذا أنك أصبت بالضعف وتخليت عن دورك في النضال من اجل إعلاء كلمة الحق، ورفعت راية الاستسلام، لليأس والإحباط ؟!
ـ ج ـ لا أبدا لم أضعف قط ، وأنا كما عهدتني مازالت حساما مسلولا رغم السن، وكما يقول المثل المغربي الدارج : "مازال فالنصل ما يقطع فلبْصَل " أنني لم أكن يوماً ضعيفا، ولم أترك قط نفسي فريسة للإحباط واليأس، لكن يبدو أن الواقع و الأوضاع والممارسات كانت أقوى وأشرس، والزمن أمكر، وأنا لم أفكر يوما في ولوج عالم الصحافة لأتعلم فنون المكر والخديعة، فقط كنت آمل تشرب فنونها وأخلاقياتها ..
ومهما كان الإنسان قويا، يمر أحيانا بلحظات يشعر فيها بالضعف، فيبحث عن الانطواء، عفوا، الاستراحة، فيبعد بنفسه عن الشرور، خاصة إذا وجد في ذاك النأي والبعد ما هو انفع من الكثير ممن يدعون الصحافة .. ويقلل من "صداع الراس" كما يسميها الكثيرون ، ويفتح القريحة للكتابة وترتيب الافكار ..
ـ س ـ هل معنى هذا أنك استسلمت للوضع، واخترت الاستكانة في بيتك غاضا الطرف عما يحدث...
ـ ج ـ على العكس، ظللت مراقبا، ولازلت متابعا ومنبها لمكامن الخطأ في تسيير وتدبير الشأن الصحفي العام، وسأظل أدافع عن الحريات وعن الحق في التعبير عن الرأي بحرية، لأنه واجب لا يجوز الحياد عنه، بل أجزم القول بأنه "فرض" عين على كل مواطن يحب هذه المهنة ويرغب أن يرى صحافة بلده في مصاف صحافات الدول التي تحترم نفسها وإنسانها .
ولتحقيق ذلك ينبغي علينا استحضار نوع من الشجاعة الأدبية لنقد الذات، والتنبيه إلى إن أخطر ما يحدق بصحافتنا، هو الاستغلال البشع للحريات غير المنظم وغير المقنن، وعلى رأسها حرية التعبير -التي لا يمكن إنكار القفزة الجبارة التي قفزها المغرب في مجالها وفي فترة قياسية- والتي لن أجانب الصواب إذا قلت أنها من أخطر وأكثر القضايا الحيوية والشائكة في التاريخ الإنساني، وذلك لأنها إذا هي استغلت استغلالا لائقا، وكانت من أجل الشعب ومساعدة الجماهير للوصول للحقيقة المؤدية إلى تكوين آرائه العامة الصائبة في استقلالية وفي ضل سيادة القانون ، فإنها تؤثر إيجابا على الكثير من نظم الحكم في العديد من بلدان العالم، فتتطور وتزدهر تبعا لتطور مفهومها واتساع مساحة ما تطرح من أفكار جديدة ورؤى جريئة تستحث الجدل الفكري الذي ينتج المعرفة النوعية والتنمية. لكن بالمقابل إذا أسيء استخدامها، وفُسرت وفقا للأهواء ومن أجل الأغراض الشخصية للأغراض الشخصية ، ولو كانت لانتهاك أو الاعتداء على حقوق أية جهة، عامة أكانت أم خاصة ، فإنها لا تنتج إلا كل غث سقيم من الأفكار التي لا تستحث جدلا فكريا ، ولا تنتج معرفة، ولا تصنع إلا الفوضى الإعلامية المفعمة بالقذف والشتائم وإدمان العنف الذي يشكل خطرا على المجتمع وبنيته الإعلامية ، لأنها غير محصنة بالقوانين الصارمة، و غير مقننة بالحدود الأخلاقية والخطوط الحمراء الثابتة والضرورية التنظيم العمل الصحفي والإعلامي، ووقايته من أن لا يصبح ومهنة من لا مهنة له، وحتى لا يتحول إلى ميدان سائب ، يقتحمه الدخلاء الذين لا يفقهون شيئا من أبجدياته ولا تهمهم أخلاقياته ، ويعتدي عليه المرتزقة الذين لا يكترثون للمادة المنشورة فى صحفهم التجارية البحتة، بقدر ما يكترثون لما تدره من مغانم ، التي لا يتورعون من أجلها في سرقة مقالات غيرهم عن طريق النسخ واللصق التي يجيدون طرقها أكثر من إجادتهم أساليب الكتابة وفنونها، التي ليس لها عندهم من أهداف غير جمع مردود الإعلانات المدفوعة والتي هي الأساس الرئيس وراء إصدارهم للجرائد والمجلات، الورقية والإليكترونية ؛ الأمر الذي حول الصحافة من وسيلة "إعلامية" مسؤولة تحترم عقل الإنسان، ولا توقع الضرر بالمجتمع ، ولا تقود إلى تضليله أو تجهيله ، إلى مؤسسة " إعلانية " لغايات ربحية مادية بحتة مجردة من أي دافع ثقافي أو مسؤولية وطنية مجتمعية ..
فلا تندهش، أيها المحترم، ولا تتصور أنني أبالغ إذا قلت أن هناك رؤساء تحرير بعض الجهويات " أميين " لا يقرؤون ولا يكتبون، ومع ذلك كان ولايزال لهم أعمدة تنشر بها مقالات بأسمائهم كلما صدرت جرائدهم، أما المراسلون فحدث ولا حرج ..
ـ س ـ متى ستكون لنا صحافة في المستوى المطلوب صحافة جماهرية موضوعية، لها قواعدها وأدواتها التي تحكمها، لا صديقة السلطة ولا عدوة لها ، تهتم بالصالح العام وتقبل بروح العصر وسلطة المجتمع والمواطن، وتبحث عن الحقيقة والأفضل لمساعدة الجماهير لاتخاذ رأيه في أجواء صافية...؟؟
ـ ج ـ عندما نتوقف عن تسمية الكذب والنفاق والبهتان لباقة وذكاء اجتماعيا !! وحينما نصل إلى قول الحقيقة كما هي، ولما نصل إلى مواجهة الذات ومساءلتها عند كل تقمص لما هو كائن بكل صدق وبكل شجاعة...
وعندما نتعرف على خطورة دور هذا الميدان وتأثيره على المجتمعات ونحسم في أموره طبقا لمقولة أمير الشعراء شوقي رحمه الله.
"والشر إن تلقه بالخير ضقت به .. ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم"
آنذاك فقط ستحل العديد من قضايا ومشاكل صحافتنا ونتوصل إلى إيجاد مصل يلقح هذا الجسم المريض، الذي اعتلاه صدأ الرياء والبهتان وكل الموبقات اللإنسانية من تلوث فكري وبيئي وجسدي وعقلي وعقائدي ومعاملاتي وسياسي وجمعوي وتعليمي، ويكون لنا ذلك النوع من الصحافة الصادقة في القول والفعل والوعود ، والتي تبني الأوطان ولا تهدمها، وترتقي بالمجتمعات ولا تحطمها، والتي نحن في أمس حاجة إليها في بلادنا السائرة في طريق النمو.
ـــــ س ـــــ هل من كلمة أخيرة .
ــــ ج ـــــ بعد الشكر والامتنان لمحاوري، أود أن أنبه في ختام هذا الحوار إلى أن حديثي هذا ليس معمما ولا يشمل كل الصحافة الجهوية، لأن من بينها جرائد محترمة يقوم عليها أساتذة صحفيون محترفون تعلمنا على أيديهم مهنية الصحافة وأخلاقياتها ، فلا يمكن أن تنطبق عليهم تلك التوصيفات المشينة، وهنا سيكون من باب الموضوعية والإنصاف الاعتراف لهم بما راكمته الصحافة الجهوية الملتزمة من نهضة وتحديث فكري وثقافي -بفضل فكر واجتهاد وإبداع نخبها - وضدا على جميع الإكراهات الموضوعية والذاتية، وفي مواجهة قوى التقليد ومرتزقة الصحافة والدخلاء، من غير أبناء المهنة، الذين أساؤوا بشدة لسمعة الصحافة عامة والصحافة والجهوية خاصة، بما يتقيِؤونه في تجمعات المقاهي وقاعات الحلاقة وصالونات المجون، البعيدة عن الندوات الفكرية والأدبية، مقابل الحصول على الهبات والعطايا أو الامتيازات او هي مجتمعة.. وبكلِّ المحبّةِ والتّسامحِ، لا يَسعُنى إلاّ أن أدعوَ بالخير والصلاح لهؤلاء وأولئِكَ ولكلِّ المُسيئينَ لصحافة عسى يتوب الجميع إلى الرشد ، ويعود إلى سبيلِ الشّفافيّةِ البنّاءة..
بقلم/ حميد طولست
بتصرف..