كل النواب في القبّة ضالَّتُهم النفعية وهم براء من الوطنية
كثير من المسلمين يعتقدون عن حسن نية، وجميل قصْد، بفعل ما يسمعونه من محدّثين ووُعّاظ عن الصحابة، فيقدّسونهم، ويبجّلونهم لكونهم صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لكنْ في واقع الأمر، ليسوا كلّهم على نفس المستوى من الإيمان والعمل والإخلاص لله ولنبيّه الكريم؛ فمراجع [الجَرح والتعديل] لا تقرّ بأنهم كلّهم [عدول]؛ فمنهم من توفي رسولُ الله وهو عليهم غاضب، وهم كُثُر، ونحن نبجّلهم لا لشيء، إلا لكونهم (صحابة)، ويمكنني أن أعطي أمثلةً بأسماء بعضهم: فمثلا [عبد الله بن أُبَي بن سَلُول] الملقّب بـ(أمير المنافقين) كان صحابيًا بل إنه بايعَ تحت الشجرة [بيْعة الرِّضوان].. و[خُويْصرة] الذي قال للنبي عندما لم تعجبْه قِسمتُه: [إن هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله]، فغضبَ منه النبي الكريم، و[خُويْصرة] صار في ما بعد زعيم الخوارج.. و[الوليد بن عُقْبة] نزلتْ في حقّه الآية: (إنْ جاءكم فاسقٌ بنبإ فتبيّنوا)، وفي عهد [عثمان] رضي الله عنه، صلّى بالناس وهو سكران، فركع بهم عدة ركعات، ثم جلس وقال لهم: (هل تزيدون؟).. و[طلْحة] الذي نزلت فيه هذه الآية: (ما كان لكم أن تُؤْذوا رسول الله) سورة (الحجاب)؛ و[مُعتَّب بن قُشَير] الذي قال: (لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُتِلْنا ها هُنا)، وأورد القرآنُ قولتَه هذه بحذافيرها، وقد جاء ذكرُه في كتاب [الإصابة في تمييز الصحابة] للعسْقلاني؛ رقم الحديث: (8137)، وكان من بين من أرادوا قتْلَ النبي الكريم، وذكَروه في من شهد (العقبةَ).. ثم جاء القرآن الكريم بآية صريحة: [منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة]؛ سورة (آل عمران)؛ قال [ابن مسعود]: (ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله يريد الدنيا، حتى نزلتْ فينا هذه الآيةُ يوم أُحُد)، اُنظر كتاب [مجْمع الزوائد] لـ(الهيثمي)؛ رقم الحديث: (10.904).. لكنّ وضّاعي الأحاديث، ابتدعوا حديثًا يبرِّئُ كافة الصحابة، ويبيح لهم أفعالهم: [اِعْملوا ما شئتُم، فقد غفرتُ لكم] وحديث آخر: [أصحابي كالنجوم، فبمن اقتديتم، فقد اهتديتم]، والقرآن الكريم يصادم الحديثين صراحةً؛ أما الوعّاظ، فهم يصوّرون للناس إمّا تعمّدًا، وإمّا جهلاً، كوْن الصحابة كلّهم [عُدول]، فيصدّقهم المستمعون عن حسن نية، فيما القرآن والتاريخ يثبتان عكْس ذلك تماما؛ حتى لإنّهم كانوا يجاهدون ابتغاء المنفعة لا ابتغاء مرضاة الله؛ والآية واضحة وصريحة بهذا الخصوص..
مثلُ هذا، يحدث اليوم في قبّة البرلمان.. فأهلُ البرلمان يعتقدون أنه من حقِّهم أن يفعلوا ماشاؤوا باعتبارهم نوابَ الأمّة، وكأنّ الشعب بتصويته عليهم قد قال لهم: [اِعْملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم]؛ لهذا تراهم يتآمرون على حقوق الشعب كما فعلوا في مسألة التقاعد، والاقتطاعات من الرواتب، والزيادة في الأسعار، وتجميد الأجور؛ لكنّهم يتّفقون حوْل تقاعدهم، وتعدُّد تعويضاتهم، وعدم جَزْر المتغيّبين، وكأنّ ذلك حقٌّ لهم في أموال الأمّة لمجرّد أنهم نواب الأمّة؛ فهذا حسب اعتقادهم يعطيهم الحقّ في نيْل ما ليس بحق لهم إطلاقا، ومن أبرز ذلك، حقُّ التقاعد الذي هو من حقّ الموظفين، والجنود، والشرطة، والعمّال، بعد (30 أو 40) سنة عمل متواصل ولا يخصّ صفةً مثْل صفة برلماني؛ فالنائب إذا انتهتْ صفتُه كنائب، عليه العودة إلى مهنته، أو وظيفته، أو حرْفته، وهناك يكمن حقُّه في التقاعد لا في البرلمان الذي مدّتُه محدودة بخمس سنوات، ولا حقّ فيها لأحد في التقاعد عقلاً، ومنطقا، ودينا، وقانونا؛ وإذا كان هناك قانونٌ يمنحهم هذا الحق الزائف، وجب نسخُه بقانون عادل؛ وحتى الله سبحانه وتعالى، مارس الناسخ والمنسوخ في آيات شرعية، فما بالك بالإنسان إذا تبيّن له أن قانونا يمثّل ظلما في الأمّة، أفلا يجوز والحالة هذه نسخُه والتخلص منه؟
لكنّ النواب ضالّتُهم [النّفْعية]، وهي التي تُعْميهم عن رؤية الحق، والعدل، والقصاص. وعن هذه (النفعية) سنتحدّث اليوم؛ فما هي [النفعية] (Utilitarisme)؟ يقال: نفَعَه نفعًا أي أفاده، وواصل إليه خيرًا؛ و(المنفعة) من النفع، وهي الفائدة التي تترتب على الفعل.. قالوا: كلّ مصلحةٍ أو حكمة تترتب على فعْل الفاعل تسمّى غاية من حيث إنها على طرف الفعل ونهايته؛ وتسمّى فائدة من حيث ترتّبُها عليه؛ فهُما، أي الغاية والفائدة، متّحدتان ذاتا، ومختلفتان اعتبارا.. والنفعي من الرجال من يؤْثِر المنفعة على كل شيء، والنفعي من الأشياء ما يترتب عليه النفع، ويرادفه النافع.. وقد يُطلَق النفعي ذَمّا ونكاية بالرجل الذي لا يفكّر في الـمُثل العليا، ولا يميل إلا إلى الأرباح المادية كما هو شأن نواب الأمة في البرلمان ببلادنا؛ فهم ضالّتهم المنفعةُ بمعزل عن الوطنية، والإيمان الديني، ومحاسبة الضمير، لأنهم لا ضميرَ لهم أصلا، ولا مصالح وطن تشغلهم إطلاقا ومن حق الأمّة التخلص من شرّهم وضررِهم..
في فلسفة النفعية، ممثّلان شهيران، أحدهما [بنْتَام] والآخر [استوارت ميل]؛ فماذا يقول الأول بهذا الخصوص، وما هو رأيُ الثاني؟ ذاك ما سنراه غدًا إن شاء الله بالتفصيل الكافي والشافي، ويبقى الرأيُ للسادة القراء الأفاضل.. إلى اللقاء!
فارس محمد